في الأصل التاريخي لمتلازمة «أزمة الحكم والسياسة» في الجزائر

1
1728

بشير عمريBachir Omri

إذا كان يسهل تحديد الفرق بين طبيعة أزمة السلطة وأزمة السياسية في النطاق المفهومي النظري المجرد، فإن ذلك يستعصى أحيانا على الصعيد الإجرائي الميداني، كما هو الحال مع الظاهرة الجزائرية، حين تبرز الأزمتان رتقا وفصلهما يكاد يغدو مستحيلا، بسبب عسر لحظة ميلاد كليهما وطبيعة الوعي الذي تداعى عن تينك اللحظتين واستمراره إلى يوم الجزائريين هذا.
مخلفا ميراثا محنطا لا يُنظر ولا يرتجع إليه، في مشهد يعكس مدى خيبة المثقف السياسي والسياسي المثقف، في فهم عناصر تشكل الذات الوطنية في بعدها السياسي الواعي وأدوات الاشتغال على ذلك الوعي، بما يتيح سبل العبور نحو طبيعة المراحل التي يقتضيها مسار تطور السياسة وما يرتبط ويتداعى عنها من نشاط وإنتاج.
كيف يمـــــكن فهم طبيعة الرتق الحاصل للأزمتين، عبر محاولة تحليل الظاهرة بنيويا، بمعنى ولوجها في عمق العلاقات القائمة بين عناصرها، بدلا من الاكتفاء برسم عوارضها الخارجية؟
منشأ الالتباسات الأولى
تكاد كل القراءات التاريخية تحسم، ودونما خلاف، في أن الوعي الوطني الذي تجلى في صورته النهائية والمكتملة تاريخا وجغرافية، من خلال بروز الحركة الوطنية، لم يكن ميراثا لحركة تفاعل مشاريعي فكرية وسياسية وفرتها الحالة الوطنية، لأن الوطن كان مرتهنا تاريخا وجغرافية، بل كانت نتاج تفاعل تلقائي مع واقع شعب ينزف في حاضره ويغيب عن ماضية، فاستقام الإسلاميون على طريق الانبعاث بالارتجاع إلى ذات ما قبل السقوط التاريخي في قبضة الاستعمار، في ثلاثينيات القرن الماضي، سبقهم اليساريون في حركتهم العمالية، وفي نهاية الأربعينيات تفجرت القضية البربرية داخل الحركة الوطنية، في الوقت الذي عجز فرحات عباس عن العثور على هوية الأمة في مقابر التاريخ، قبل أن يرتد إلى سبيل الرشد، لذا تمحورت الجهود هـــؤلاء وأولئك حول نقطة غير خلافية وهي تحرير الأرض، بصرف النظر عن القراءات للذات والمشروع الذي تستلزمه في مسار انبساطها في رحاب تلك الأرض المستهدفة بالتحرير، نقطة حاسمة كانت هي، في حد ذات ندائها، بيد أنها كانت أضعف بكثير من أن تحمل إجابة عن سؤال مشروع ما بعد التحرير والتحرر، لذا تواصل العنف «التحرري» الذي تداعت إليه كل الأطراف لمواجهة الاستعمار كمشروع الخلاص من الآخر، ليصبح مشروعا للخلاص من الذات، في لحظة تاريخية متناقضة تماما مع روحه وحركته الأولى، ومعه تواصل عدم الحسم الواعي والوعي الحاسم في مسألة بناء الأمة وفق الأسس الطبيعية التي تقوم عليها الدولة الحديثة، وهو التعاقد المؤسس على مواثيق مشتركة، منتخبة ومحترمة.
في انبثاق الثنائيات
إن الوعي الوطني، إنما استقام أول ما استقام على السياسة لا على الحرب، ولم ترث الحركة الوطنية العنف التحرري التقليدي الذي وسم المبادرات الجهادية الشعبية في ما يعرف في أدبيات التاريخ الوطني بـ»المقاومات الشعبية»، بسبب القطيعة الزمنية التي فصلت اللحظتين التاريخيتين، لذا فقد انصب جهدها حول إثبات الذات، وتعبئة الجماهير حولها وإنضاج المطلب التحريري عبر كامل روافد النضال، السياسية، الفكرية، العقائدية والتاريخية، إلى أن استحال المضي زيادة في هذا المسار، لتتجلى الحاجة إلى العمل المسلح، فانبجس الجناح العسكري، وبذلك يتأكد أن الأسبقية في الانوجاد كانت للسياسي وليس للعسكري، بل إن السياسي كان هو منتج العسكري، هذا من جانب، ومن جانب آخر يتضح أن العسكري التحرري لم يكن محترفا بالمفهوم الضمني للكلمة، بل سياسيا بوسيلة أخرى، مثلما هو مأثور نقله عن المفكر الألماني كلاوز فيتز في أن السياسة هي حرب بوسائل أخرى والعكس صحيح.
الخطأ التاريخي
لكن الخطأ المميت الذي ارتكبه السياسي الجزائري، كان في تسليمه المؤسسي ورصيده النضالي الحزبي وتراثه السياسي، للكيان التوحيدي الظرفي التحرري، وهو ما قطعه كما قطع السياسة عموما من جذورها، وسهل عملية أدلجة الثورة وصهرها في بوتقة الخطاب الأيديولوجي الوحدوي الذي سيتحول ويتواصل داخل النسق الأحادي، ذلك الأمر سهل لجهاز تسويق العهد الجديد القاطع معرفيا وسياسيا وتاريخيا بالتراث النضالي التعددي، مسألة قولبة التاريخ، وتأليه سلطة الاستقلال وتلموذها المحرف المزور، الذي تم تلقينه عبر كل مستويات ومؤسسة التنشئة للقواعد الشعبية، من خلال متوالية جيلية من ستة عقود، فاستحال الوجود الوطني تاريخيا في خيال الجزائر ووعيه المحرف إلى حدث طارئ في خمسينيات القرن الماضي مع ظهور جبهة التحرير الوطني، ولم يمكن للجزائري أن يستمر اتصاله الفكري مع ذلك التراث الطويل من فهم التحرر وتجربة التحرير.
لقد تم بسبب جرم تحويل بادرة الانتظام العملي النضالي الموحد في إطار واحد (جبهة التحرير الوطني)، إلى جهاز أيديولوجي مرجعي لتاريخ الأمة، تديره سلطة محتكرة للرمز ممحورة للوجود الوطني فيه – تم – إفقار الأمة من الرصيد التراكمي للخبرة التعددية الفكرية والسياسية، ذلك لأن الميراث السياسي لكل الفصائل التحررية، تم تأميمه، نتيجة ذلك الخطأ في التنازل عن الكيان الخاص كمعنى ثابت لصالح العام كمبنى متحول، وهذا بالانضواء المؤسسي الجماعي الحزبي، تحت لواء المنظمة الكبرى وهي جبهة التحرير الوطني، ليحرص قادة الاستقلال على الإطباق بشكل تام ونهائي على ذلكم الميراث، من خلال استبقاء الجهاز التوحيدي (الأحادي) الذي يحمل القضية المشتركة (التحرير) ونزعها عن الجهاز العنفي العسكري جيش «التحرير» الوطني ليتحول إلى الجيش الوطني «الشعبي»، وبذلك لم تعد السياسة في الجزائر هي حقل إنتاج السلطة، بل السلطة هي التي صارت تنتج معنى للسياسة، عبر محاور أربعة متغيرة في البنية والمعنى والدور، ما أعطى قدرة الديمومة وإعادة إنتاج هاته السلطة لنفسها على مدار عقود الاستقلال الست وهي:
الأيديولوجيا المطاطية
لم يعق التأسيس اليساري وما يُعرف عنه من المحافظة واستحالة الانزياح عن نسقه الأيديولوجي المتزمت، دونما تمكن السلطة في الجزائر من التخلص الدستوري وقبله الممارستي للفكر الاشتراكي العمودي الذي كانت تتبناه كموروث ومرجع مجتمعي اجتمع حوله الكثير من فصائل الحركة الوطنية، فمثلما احتكرت هذا المبدأ خطابا وبشاكلة غير منتظمة تطبيقيا، احتكرت النقيض، حين هدمت كل معاني الاشتراكية من دون قاعدة تشاركية، وتفردت بالمجتمع وفق اكراهات الخارج، انتهازية الاوليغارشية في الداخل، لتنهي بذلك الطابع الاجتماعي للدولة الذي صاغته مواثيق الحركة الوطنية.
الجهوية الصدامية
محور إشكالي آخر أقام واستقام عليه وجود السلطة وأسهم في إطالة عمرها، وهو الجهوية في الحضور بمجال العمل الوطني، كل يتهم الكل بالهيمنة على مصادر القرار في البلد والنفاذ فيها والكل يتهم الكل بتهميشه، في وقت تظل السلطة ككيان موحد نائية عن الظهور، بل عن الفهم لدى كل محللي السياسة ودارسي علومها.
ضبابية الهوية
ولما كانت الأيديولوجية مطاطية في فكر وسلوك سلطة تحتكر العنف والوعي وأدواتهما، لم يكن صعبا عليها أن تنجح في احتواء كل أشكال المطلب الثقافي للمجتمع، عبر زرع بذور الفرقة بين مختلف التوجهات المتناظرة، والدفع بها إلى التصعيد في سلوك وممارسة الاختلاف من التناظر إلى التكاسر، حتى يتأتى لها إقناع العموم بأنها الضامن لعدم الوصول إلى الاقتتال حول المعنى والمنابر المنتجة له.
فإشكال اللغة عرف تطورات سياسية دونما تطورات عملية على صعد التأسيس والمأسسة، فلا العربية مكنت في المؤسسات والمجتمع، ولا الامازيغية طورت، فقط اللعب على العناوين وإثارة الفوضى الخلاقة في ما بين منابر التناظر تلك، وتظل هيمنة فرانكفونية باقية
ذات الكلام يقال عن الدين والتدين، فلا أحد استطاع، في هذا السياق مثلا، أن يحدد موقف السلطة من المواجهة التي حدثت بين الكاتب الفرانكفوني كمال داود الذي أساء للإسلام والقيادي في الحزب السلفي حمداش الذي أهدر، بسبب ذلك، دمه، أضف إلى ذلك تركها للعديد من الإشكالات العالقة في المسألة الحقوقية، ضائعة في غبار السجالات النخبية، كالمطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام من عدمها، التي يتطاحن بخصوصها التيار الحقوقي العلماني ونظيره الحقوقي الاسلامي، المرأة أيضا التي لا تتناول قضاياها إلا بالقدر الذي لا يغضب الداخل ويؤلب الخارج.
الفرصة الضائعة
كل تلك المسائل وغيرها تعتمل داخل نطاق ليس سياسيا بالمعنى الإجرائي للكلمة، طالما أنه يظل محل استئناس النخب السياسية في حدود النقاشات الصالوناتية، ولا يعدوه إلى قنوات الانبساط التطبيقي، وهذا بسبب الوجود العدمي للمؤسسة الحزبية الحقيقية معارضة كانت أم موالاة. هي إذن محاور محتكرة متغيرة داخل الثبات، ظلت مضبوطة بأداة المصالح التي ترعى من خلالها السلطة المتجددة مصلحتها من كل الأطراف وبالمقابل ترى تلكم الأطراف مصلحتها من السلطة، ولعل هذا ما يفسر عدم قدرة الساحة السياسية على تحقيق التغيير، طالما أنها مفتقرة لقاعدة حزبية حقيقية تضرب بمشروعها ومشروعيتها في جذور التاريخ لتشكل ندية وجودية وزمنية لسلطة ممتدة الخط متوالية الأجيال.
من هنا يتضح أن الجزائر تواجه أزمة سياسية للسلطة وأزمة سلطوية للسياسة، سببها انتحار مؤسسي قديم لنخب وفصائل الحركة الوطنية بتنازلهم لميراثهم المؤسسي الحزبي المتعدد، لجاهز أحادي متجاوز في طغواه وعدائه للتعدد التنظيمي إلى التعدد الفكري، وهو ما عمل على فصل المجتمع عن تراثه النضالي والسياسي، وأضعف من فرص تأسيس مجتمع سياسي صحيح ممتد في الماضي ترى السلطة نفسها من خلاله، لا كما هو حاصل الآن حيث كيانات سياسية ترى نفسها من خلال السلطة.
٭ كاتب وصحافي جزائري
بشير عمري

1 COMMENTAIRE

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici