وليمة الدستور خلف غبار زحمة التاريخ والسياسة في الجزائر

1
1913

 

بشير عمريBachir Omri http://www.alquds.co.uk

 JANUARY 15, 2016

 من المستفيد من لحظة وفاة زعيم المعارضة الأقدم ومؤسس جبهة القوى الاشتراكية في الجزائر حسن آيت أحمد، أو بالأحرى من خدمته ظروف وتداعيات الوفاة تلك، على صعد الخطاب كما الممارسة السياسيين من سلطة ومعارضة، خصوصا في السياق الظرفي الذي تحياه البلاد وما تعرفه من هزة اقتصادية قد تُسجل بوصفها الأعنف في تاريخ الجزائر في ظل تواصل تراجع أسعار النفط في السوق الدولية بشكل رهيب، إذ يتوقع الخبراء نزولها إلى ما تحت عتبة العشرين دولارا للبرميل؟ ولماذا عاد التراشق بالاتهامات والاتهامات المضادة بخصوص قرار توقيف المسار الانتخابي سنة 1992 وما تداعى عن خطورته من دخول البلاد في أتون حرب جهنمية أهلية ضروس أتت على الأخضر واليابس وحصدت أرواح زهاء مئتي ألف شخص؟ وكيف سُمح للشيخ علي بن حاج بعقد تجمع شعبي بواد رهيو من دون أن تتدخل قوات الأمن لفضه كما كان عليه الحال في غير ما مناسبة؟ كلها أسئلة تؤشر إلى أن حالة اعتصار يعيشها الوضع السياسي للبلاد، قد ينجر عنه إعصار ليس يستطع أحد أن يتكهن بمداه ولا مآله ونتائجه.

سياسة بلا تاريخ وتاريخ بلا سياسة

من سجال العوائل الثورية وأسر الشهداء من قادة وثوار الحرب التحريرية الذي أفرزته ظاهرة كتابة المذكرات، انفجرت مع قدوم بوتفليقة للرئاسة سنة 1999 والتي نقلت الفاعل التاريخي للجزائر المحتلة من حالة السياسي الصامت المستفيد من «خرس الذاكرة» إلى السياسي الكاتب، في ظل عدم قدرة المؤسسة المعرفية ومجتمع الثقافة في الجزائر على إفراز كاتب سياسي، مسلح بآليات المعرفة الموضوعية وأخلاقيات الكتابة، في تأكيد مؤلم لاستمرار هزيمة المثقف أمام السياسي – من هذا السجال – وُجدت الساحة السياسية بقدرة قادر، في مهب معركة شرسة يؤججها الماضي ويشعل حرائقها في حاضر البلاد، بطلها هاته المرة أصحاب أخطر قرار ضرب بنية المجتمع والدولة في مقتل، بداية تسعينيات القرن الماضي، وهذا بعد أن انتظر الجنرال المتقاعد خالد نزار المهندس الميداني لانقلاب سنة 1992، وفاة الزعيم الأول للمعارضة في الجزائر حسين آيت أحمد، لينفي ما سبق وأشيع من مقترح يكون قد قدمه له لرئاسة المجلس الأعلى للدولة، الهيئة التي أسست بعد استقالة أو إقالة الرئيس الراحل شاذلي بن جديد، وهذا قبل أن يتم اللجوء إلى بوضياف، بعد أن رفض آيت أحمد القرار جملة وتفصيلا، ذلك لأن آيت أحمد كان يريد ربما أن تقطع السياسة مع الماضي وأن تتحرر جيليا من ارتهانها لسلطة الدولة القطرية الاستقلالية التي احتكرت الوعي الوطني، حتى غدت الظاهرة الجزائرية بعسرها في مسألة في التأسيس القطري شاذة عن كل الظواهر والتجارب، أين يأبى الماضي إلا أن يستديم فاعلا في الحاضر بكل ثقله وقلاقله ولو ضد قوانين التجدد البيولوجي والأيديولوجي التي تحكم التاريخ! 
أجل، ففي الجزائر يراد دوما للسياسة أن تشتغل بمعزل عن التاريخ، أي أن لحظتهما تتفقان وتفصلان بإرادة قبلية ومقصودة، وهذا عبر التغييب الجسدي أي من خلال الإبعاد، التصفية أو التعتيم ويرام من وراء ذلك تحقيق الحسم الهادئ والمؤقت لخلافات تضرب بجذورها في أعماق النضال من أجل الوجــــود الوطـــني، هذا ما جلته مثلما أشرنا آنفا، مبادرة كتابة المـــذكـــرات التي قيل أن بعض هواة ممارستها من شــىخصيات ثورية سابقة تورطت في مستنقع ووحل مشاكل الاستقلال خصوصا في الفــــترة التي أعقبت توقيف المسار الانتخابي، ولجأت للكتابة عن الماضي تطعن فيها في ســــيرة بعض الشهداء لتغسل حاضرها بماضيها، وهو ما أشكل على الأجيال مسألة تحقيق التجاوز الطبيعي في مسار تصحيح الوعي وإعادة بناء الذات الوطنية بشكل موضوعي وصادق، فبعد ربع قرن على بادرة «الينايريين» انكسرت أعمدة الوفاق الفوقي وانهار إدعاء إنقاذ الجمهورية الذي كان يناطح الغيوم ويأبى أن ينزل إلى الأرض حيث تستقر قناعات الناس.
وفي مقابل ذلك يراد للتاريخ ان يشتغل بغير سياسة، حين تنزع آلية «الأدلجة الوطنية» عن حركة التاريخ الوطني كل خصائصها الموضوعية وترمي بها في وهم المثالية من أجل استنبات مواطن بحلم شمعي تذيبه أخفت أشعة التاريخ حين تنبلج في الآفاق.

ولائم الكلام وظرفيات الآلام

ويشاء دوما للتاريخ في الجزائر أن يزدحم بالسياسة ولو بافتداء السيادة، حين يشرع في إعادة ترتيب البيت الداخلي للسلطة، إذ يتصاعد ضجيج الهامش ويقع تشتيت للاهتمام فلا جدل يحسم ولا نقاش يستفاض ليستفيق في النهاية الجميع على وقوع أمر سرعان ما يتحول إلى أمر واقع! فيعود الصمت الأبدي حول شرعية قيادة البلاد ليستكمل ملحمته غير البطولية في تعطيل مساعي إعادة إصلاح دولاب الوعي الوطني، فمن لهيب نيران سنوات الدم صنع صمت ألم الحاضر حول القانون الأساسي للأمة الذي يضبط مستقبل أبنيتها ومؤسساتها، في مصادفة مركبة دوخت الكثير من فعالي السياسة، إلى درجة أن ترنح بعضهم في خطابه المعارض، كما هو شأن إسلاميي الإنقاذ الذين لم يعرفوا إن كان عليهم اغتنام فرصة معركة الغسيل التي اندلعت على ركح الإعلام فيما بين «الينايريين» أم يضعوا تركيزهم على مستقبلهم الذي قد يعدمه مشروع الدستور المقبل، فوسط غبار الازدحام (تاريخ- سياسة) الحاصل حاليا، لا شيء كالعادة سيحسم والمؤقت والانتقالي سيلبس وسيكتفي بحمل رداء جديد.

منطق الدولة خارج الوعي والأطر القانونية

إن خيار توظيف وتسخير السياسة لأشياء التاريخ وجراحاته المتبع من قبل السلطة كأسلوب للقفز على النزر القليل من الوعي الحاصل في المسألة الوطنية وتعطيل مسعى الوصول للوعي الكامل المنشود في هذا الإطار، يعكس بحق طبيعة المنطق الذي ترسخ به الوجود الوطني والذي لم يبرح مجال الانتماء المكاني والزماني لحظة انفصال الذات الوطنية عن الاستعمار، أما التطلع إلى الآفاق الكبرى التي تعنى بالتموضع في نطاق التاريخ وتحقيق الانجاز الوطني الكبير في التنمية وفق الانموذج التشاركي الديمقراطي الحر السائد في العالم اليوم، فهذا سيظل مؤجلا وذلك مذ تم الإجهاز على الشرعية سنة 1962 وتأكيد ذلك الإجهاز 30 سنة من بعد عملية توقيف المسار الانتخابي التعددي الأول للبلد، أي في كانون الثاني/يناير من قبل (الينايريين) سنة 1992.
فمثلما كرس «الينايريون» إرادتهم وفرضوها على المجتمع حين ألقوا به في قعر جهنم الاحتراب والاقتتال، يوم احتكروا مسألة الوعي الوطني، وأعطوا لأنفسهم سلطة ضبط هذا الوعي وحماية الوطن من مواطنيه! يواصل الرعيل المتأخر من أبناء السلطة ذاتها إعادة إنتاجها من خلال توظيف الماضي لتعبيد طريقه نحو استمرار الإرادة الخاصة على الإرادة العامة.

التداعيات

فهكذا إذا، تفاقم نطاق الخشية على الكيان الجمعي في ظل تمدد الفراغ واتساع ثقب أوزون الوطن، وعيا وانتماء، فليس الارتجاع غير البريء للذاكرة، لكسر نسق التطلع للمستقبل وتخدير حركة الاستشراف الواعي لمستقبل البلاد، سوى استمرار للأسلوب العصبوي العصاباتي الذي حسم معركة السلطة منذ سنة 1662 ولم يحسم مطلقا حرب الشرعية التي تضطرم في أصول مجتمع السياسة في الجزائر من إبانها ولا تزال، فالدستور المنقوص من الشرعية المجتمعية التي لا تتأتى سوى عبر انتخاب مجلس تأسيسي تتداعى لمحصلة اشتغاله كل الإرادات والتوجهات، سيواصل لحمل صفة المؤقت القابلة للخرق طالما أن هذا الدستور سيظل محروما من قدسية الانبثاق الجمعي الشرعي المشترك، ويبقى نصه مطاطا بين أصابع التأويل المصلحي يتشكل وفق إرادة المغامرين، يمتطونه أنى شاءوا وكيف ارتأوا، وهذا ما يعني استدامة المؤقت وبقاء حلم الانطلاق إلى رحاب الآفاق الأخرى للوجود الوطني قيد الوهم الأسطوري.

كاتب صحافي جزائري

بشير عمري

1 COMMENTAIRE

  1. مقال أكثر من رائع، تحليل منطقي وربط الماضي بالحاضر لإبراز الخط المستمر الذي تمشي عليه السلطة في الجزائر، نستبشر بقدوم كتاب سياسيين كبار بالجزائر.

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici