لقد ترجل الفارس من صهوة جواد الدعوة الجادة و العمل الدءوب، وارتحل إلى دار الخلد ليهنأ ان شاء الله تعالى بما قدم من سعي مشكور، بالجزاء الموفور من رب كريم غفور .
لقد كان سي عبد الوهاب مثالا في الجد والمثابرة، من اجل رفع راية الإسلام والدعوة اليه بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة . ومهما اجتهدنا في وصف شخصية سي عبد الوهاب وطريقته المتميزة في الدعوة إلى الله فلن نفيه حقه ولكني اعتقد أن من خير واصدق ما وُصِف به، هذه الأسطر من رِثاء طويل للشيخ والأخ الكريم الطيب برغوث، يقول فيها : » لقد كان رحمه الله مؤمنا صادقا ، ووطنيا صميما ، ورساليا فطنا واعيا ، ومربيا كبيرا ، وصاحب شخصية متوازنة ، تكامل فيها عمق الإيمان وروحانيته ، وعمق الوعي ومتانته ، وقوة الالتزام وجماليته ، ومتانة الخلق وسماحته ، وفعالية العمل وايجابيته. » انتهى كلام الشيخ الطيب برغوث
حقا لقد تجمعت في فقيدنا كل هذه الصفات الحميدة وزيادة لقد كان قائدا حكيما ينجذب إليه ويأتمر بأمره طواعية كل من اقترب منه ممن اخلصوا دينهم وعملهم لوجه الله وحده . لقد أٓمّٓرٓهُ على الجميع إخلاصه، وحسن معاملته دون ان يكونٓ لنا في بداية مشوار الدعوة حتى التفكير في التنظيم والقيادة ، واستمرت العلاقة معه هكذا حتى وافته المنية.
اعتقد جازما انه ، بعد فضل الله ومنته ، لولا حكمة الأخ عبد الوهاب ودماثة خلقه وحسن معاملته مع كل من عملوا معه مسئولا عنهم أو مؤتمرا بأوامرهم ( بالجامعة او بوزارة الشؤون الدينية ) ما كنا نحن المجموعة القليلة من الطلبة لننجزٓ ما انجزناه والذي كان على بساطته وقلته يمثل فتحا كبيرا وإنجازا عظيماً في مجال الدعوة أواخر ستينيات القرن الماضي وبداية السبعينيات.
لقد كان عبد الوهاب حمودة ورشيد بن عيسى أول طلبة المفكر الكبير والعالم الأصيل مالك بن نبي في الجزائر، كما يرجع لهما الفضل في التعريف به رحمه الله ، ودعوة الطلبة إلى حضور الندوة الفكرية الذي يقيمها في بيته كل يوم احد وقد كنت انأ والأخ عبد العزيز بوليفة أمد الله في عمره من أوائل صيدهما سنة 1965م ومنذ ذلك الزمن بقيت تربطنا علاقة مودة وتعاون في سبيل الله لم تعكرها شائبة مادية ولا « مضادة » فكرية . وأول انجاز أنجزٓتهُ صداقتنا و لقاءاتنا في ندوة ابن نبي بعد الوعي والتحصيل الفكري كان » مسجد الطلبة » كما كنا نسميه، في الجامعة المركزية ، والذي كان للفقيد عبد الوهاب الدور المحوري فيه منذ ترتيب الموعد مع وزير التربية لنقدم له الطلب (1) و تهيئة قاعة الصلاة التي كانت في الأصل مخبرا مهجورا ، إلى أن أصبح مُدٓرِّسه و أول من أم الجمعة فيه.
كان افتتاح مسجد الطلبة بمثابة « الحفاز » او الباعث للعمل الدعوي في الجزائر من جديد خاصة بعد حظر جمعية القيم الإسلامية (2)، سواء في الجامعة آو في الأوساط الشعبية . و لقد قال لي احد الأصدقاء حين هاتفني معزيا في أخي وصديقي سي عبد الوهاب ، أنه يعتبر أن افتتاح مسجد الطلبة سنة 1968 كان الحلقة الثانية في العمل الإسلامي في الجزائر بعد تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1931 .
فعلا لقد طبع العاصمة بطابع جديد حيث أن الأذان أصبح يرفع في قلب العاصمة لانه لم يكن يوجد من قبل أي مسجد من ساحة الشهداء غربا إلى حي بلكور شرقا – لمسافة عدة كيلومترات – كما أصبح القرآن يرتل يوم الجمعة من أعلى المديرية العامة للخطوط الجوية الجزائرية المجاورة للمسجد ، لان ذلك لم يكن ممكن داخل الجامعة ، وهذا بفضل مديرها العام آن ذاك السيد السعيد آيت مسعودان رحمه الله الذي تلقينا منه كل الدعم والمؤازرة فأضحى مصلى الطلبة بعد أيام معدودة مسجد كل جزائر الوسط يكتض بالمصلين يوم الجمعة وفي الأعياد حيث تمتلئ بالمصلين كل الساحة المجاورة للمسجد .
وقد تزامن افتتاح المسجد مع إقامة أول « ملتقى للتعريف بالفكر الإسلامي « (3) بثانوية عمارة رشيد، و الذي على إثره مباشرة التحق كثير من الطلبة والمثقفين بالمسجد وبندوة مالك بن نبي إذ تضاعف الحضور، ولم تمر إلا شهور قليلة حتى شُرع في افتتاح مصليات ومساجد في الجامعات داخل الوطن وفي الثانويات . ونحسب أن في كل ذلك ان شاء الله اجر وثواب لسي عبد الوهاب ورفاقه .
ويجدُر بنا هنا أن نُذَكِّرَ بالدور الفعَّال والفضل الكبير خاصة في إقامة أوائل الملتقيات فكرةً وتسييراً للأخ رشيد بن عيسى حفضه الله والذي كان صديقا مقربا من سي عبد الوهاب، وكانت لهما علاقة وطيدة بالأستاذ مالك بن نبي كما تشهد دفاتره اليومية، (مذكرات شاهد القرن). و كثيراً ما كان الأخ عبد الوهاب يرافق الأستاذ مالك بن نبي في محاضراته ورحلاته عبر الوطن .
كما أشرت من قبل فبفضل تواجد الأخ رشيد في مديرية الملتقيات بوزارة الشؤون الدينية أولاً، ثم الأخ عبد الوهاب من بعده، كان لطلبة مسجد الجامعة حضورٌ ومساهمة بارزة في ملتقيات الفكر الإسلامي، خاصة في تأطير الطلبة المشاركين ومرافقة الأساتذة المدعوين ولم يحصل أبدا أي تصادم أو احتكاك بيننا وبين موظٓفي و عمال الوزارة .
في خريف 1969 فكرنا في إنشاء نشرة أو مجلة باسم المسجد فاجتمعنا ذات ليلة في بيتِ أخي الأكبر الحاج علي جاب الله في الحمامات (باينام سابقاً)، وكنا خمسة اذا لم تخني الذاكرة لاني لست متأكد من حضور سي عبد العزيز بوليفة، و هم : عبد الوهاب و(عبد العزيز بوليفة) ومصطفى خياطي وعبد القادر حميتو ومحمد جاب الله، وسميناه » ماذا اعرف عن الإسلام (4)، لان هدفنا كان التعريف بأبجديات الدين وفكره والمنتسبين له في زمن كان يسود فيه الجهل بالدين وكان التدين يعني عند اغلب الجامعيين الرجعية والجمود . كنا نختار المقالات من المنشورات بالفرنسية وبعض الاحاديث المترجمة ، ونأخذها للأخ عبد الوهاب في الوزارة من اجل رقنها على « ستانسيل » ثم نأخذها الى مطبعة الوزارة في قصر حسان تحت مسجد كتشاوة في ساحة الشهداء للسحب ثم نقوم بجمعها و ترتيبها، وقد صففت و مسكت الإعداد الأولى في بيتنا العائلي في بولوغين و في البيت العائلي للأخ مصطفى خياطى في باب الوادي كما اذكر أن مقدمة العدد الأول كتبها الأستاذ بن نبي ومقدمة العدد الثاني كتبتها مع الأخ مصطفي في بيته . فبفضل الله ثم جهد وإخلاص الأخ عبد الوهاب كانت وسائل الوزارة مسخرة للعمل الدعوي دون أي عائق وتحت أعين الرقابة لأنه كان خالصا لوجهه تعالى لايُثِيرُ أي نعرات ولا ريبة .
وأما طبع بعض كتب الأستاذ مالك رحمه الله كالظاهرة القرآنية وشروط النهضة ووجهة العالم الإسلامي و الإسلام و الديمقراطية و غيرها …. .فكان المكلف بها سي عبد العزيز بوليفة، والذي كان بعد رقنها على « ستا نسيل » في الوزارة يطبعها في مطبعة الحاج الحسين والي، أمد الله في عمره في أسفل شارع بن بولعيد بثمن رمزي زهيد ، وكان الأخ عبد القادر حميتو هو من قدم معظم ورق الطبع .
استمر عطاء سي عبد الوهاب في الدعوة الى الله طيلة حياته المهنية والذي بلغ ذروته في التنظيم المحكم والحضور الإيجابي في ملتقيات الفكر الإسلامي ، ولم يتغير اسلونه ومعاملته مع غيره وأصدقائه مهما اعتلى من مناصب ويشهد له عن عفته وزهده في السلطة اعتذاره عن منصب وزير الشؤون الدينية الذي عرض عليه لمرتين، وقد اخبرني شخصيا أن السيد حمروش عرض عليه الوزارة سنة 1989، فاعتذر وأشار عليه بالأستاذ السعيد شيبان . وقد قال الأستاذ شيبان أخيرا انه لما عرضت عليه الوزارة استشار الأخ عبد الوهاب فأشار عليه بالقبول، ولم يخبره انه هو من رشحه لذلك المنصب و هذه قمة التواضع والحياء التي كانت تطبع العلاقة بينهما .
بعد التقاعد لم ينقطع سي عبد الوهاب عن العمل الدعوى، ووجد وقتا اكبر ليتفرغ .للمدرسة القرآنية في الزاوية العائلية في إحدى شعاب قنزات، التي زرته فيها أخر مرة عند حضوري ملتقى لفرع جمعية العلماء بزمورة المجاورة لها، فوجدته منشرح الصدر مرتاحا لما آلت إليه المدرسة من تطور وتجديد وتوسع وإقبال، خِلافاً لما كانت عليه في الماضي، متواضعة وضيقة، وقد زرناها مرارا وأقمنا فيها في سبعينيات القرن الماضي، كما زارها وأقام فيها لعدة أيام الأستاذ مالك بن نبي. كما واصل الفقيد عطاؤه من خلال جمعية العلماء المسلمين وبالمشاركة في حصص تلفزية للتعريف بالإسلام وتفسير القران بالفرنسية مع الأستاذ شيبان والأستاذ عمار طالبي .
ولقد ابتلاه الله في أخر حياته بمرض عضال ولكنه كان صابرا محتسبا ولم يبد أي سخط ولا شكوى لأحد ولم يقعده عن العطاء والانشغال بهموم الأمة والوطن والدعوة إلى الله وإسدال النصح والحث عن الاعتدال في العمل ووحدة الصف والابتعاد عن اي تطرف او غلو .
مات سي عبد الوهاب كما يموت العظماء وما هذه المئات من التأبينات والتعزيات والمقالات التي ملأت الصحف ووسائل التواصل الأخرى الا اكبر دليل على قيمته وقدره عند الناس الذين يذكرونه بكل خير ليصدق فيه قول الشاعر أحمد شوقي :
» فالذكرُ للإنسان عُمرٌ ثاني « .
مات سي عبد الوهاب والموت حق على الجميع ولكن احيٓ الله بموته صفحة مشرقة من تاريخ الدعوة الصادقة ونشأتها في وطننا العزيز كان يراد لها ان تُطوٓى بالنسيان وبضجيج الغلاة والمزيفين بعد كيد الأعداء الحاقدين .
ان رحيل الأخ عبد الوهاب يترك حتما فراغا كبيرا ولكنها سنة الله في خلقه وان نهجه الوسطي والمتسامح والذي أسسه بالعمل الدءوب والمثابرة واستغلال الممكن من الوسائل المشروعة يحثنا جميعا للتأمل فيه والبناء على أساسه.
رحم الله اخانا عبد الوهاب واسكنه الفردوس الاعلى مع النبيين والشهداء والصالحين وحسن أولائك رفيقا،
وفي الختام نقول له ما قال الشاعر الكبير محمد العيد ال خليفة لفقيد الجزائر ابن باديس :
» لاتخش ضَيْعَةٓ ما تركتٓ لنا سُدَى***فالوارثون لما تركت كثيرٌ »
محمد جاب الله
. الوادي 19/10/2017
(1)المؤسسون لمسجد الطلبة في الجامعة المركوية : عبد الوهاب حمودة – عبد القادر حميتو -عبد العزيز بوليفة – محمد جاب الله
(2)جمعية القيم الاسلامية التي كان يرأسها الأستاذ الهاشمي التجاني رحمه الله ومقرها في نادي التراقي ، وقع تجميد نشاطها سنة 1966 اثر توجيهها رسالة للرئيس عبد الناصر عن طريق سفير مصر في الجزائل تلتمس منه عدم تنفيذ حكم الاعدام الذي صدر في حق سيد قطب رحمه الله ثم وقع حضرها نهائيا
سنة 1970 . (3)كانت تسمية الملتقىفي عند نشأته : « ملتقى التعريف بالفكر الاسلامي » الفكرة في الاساس تستهدف الطلبة خاصة والشباب عموما
(Seminaire d’Initiation a la Pensée Islamique)
ثم ملتقى التعرف على الفكر الاسلامي ثم تطورالى » ملتقى الفكر الاسلامي » واخذ شهرة عالمية .
(4) صدرت الاعداد الاولى بالفرسية وعندما ان ارتفع عددالطلبة المعربين اصبحط تصدر باللغ
رحمك الله يا منارة الدعوة الاسلامية في الجزائر المستقلة -و يا ويح من اكل منها الغلّة و سبّ المِلّة- و لا نجد ما نقوله الا كما جاء على لسان الراحل احمد شوقي الشاعر المصري الكبير :فالذِّكر للانسان عمر ثاني