بين مسار التأسيس و مسار انتخاب الرئيس

0
1791

محفوظ بـــدروني

(نائب رئيس الجمعية الوطنية لمكافحة الفساد)

29 سبتمبر 2019

مقدمة:

المسار التأسيسي أو مسار وضع الدستور هو ذلكم المسار الذي يشمل عدد من المراحل و عمليات مختلفة تؤدي في النهاية إلى وضع و إقرار دستور جديد للدولة.. فالمسار التأسيسي يهدف إلى إنهاء النظام السياسي القائم وأحداث قطيعة معه وذلك بإقالة رئيس الدولة و الحكومة و حل البرلمان المزور و تعليق العمل بالدستور الحالي و انتخاب جمعية تأسيسية يناط بها إعداد دستور جديد يعرض على الاستفتاء الشعبي لأجل لإقراره و المصادقة عليه.

أما المسار الرئاسي فغرضه الذهاب إلى انتخابات رئاسية عادية تحت إشراف هيئة انتخابية مستقلة في ظل الدستور القائم. وخلال العهدة الرئاسية سيتم القيام بإصلاحات سياسية ودستورية.

أولا- الحجج المقدمة لتبرير الأخذ بخيار الإنتخابات الرئاسية و الرد عليها

لقد قدم أنصار المسار الانتخابي (خيار الإنتخابات الرئاسية) عدة حجج و إدعاءات و دفوع لتبرير الأخذ بهذا الخيار نجملها ونرد عليها فيما يلي:

1°)- الظروف الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية الحالية لا تسمح بمسار تأسيسي: هذه هي نفس النغمة التي يلوكها أنصار النظام دائما لتبرير عدم الذهاب إلى إجراء إصلاحات جذرية على النظام السياسي القائم و المؤسس بقوة السلاح منذ عام 1962 بعيدا عن إرادة الشعب الجزائري.. بل بالعكس فالمسار التأسيسي الذي يكون في المرحلة الانتقالية هو الذي سيقضي على كل الإختلالات و يزيل جميع النقائص المسجلة وينهي كافة العقبات التي تحول دون إجراء إصلاحات اقتصادية و اجتماعية و سياسية.. فالحكومة الانتقالية بمقدورها اتخاذ إجراءات تصحيحية و قرارات ثورية في كافة المجالات بالنظر إلى أن المرحلة مرحلة ثورية بامتياز بينما ضمن المسار الانتخابي فلا يمكن ذلك  بالنظر إلى سيطرة الثورة المضادة و الدولة العميقة على مقاليد الأمور في كافة المجالات و المؤسسات.. فليس هناك ظرف أفضل و لا وضع أحسن من الذي نحياه حاليا ونعيشه راهنا من حيث أن الشعب الجزائري بات يخرج كل جمعة و أكثر كل يوم ثلاثاء من أجل المطالبة بإحداث تغيير جذري وعميق على النظام السياسي و استعادة زمام المبادرة باسترجاع حريته وسيادته..فإذ لم يكن في الظروف الراهنة – بعد ثورة شعبية أبهرت العالم – فمتى يتم إجراء إصلاحات عميقة على النظام السياسي و التي بدورها تسهل وتمكن من القيام بإصلاحات في المجالات الإقتصادية والاجتماعية.. فالمشكل و أصل الأزمة هو سياسي بامتياز يتمثل في انعدام شرعية النظام و عدم مشروعية السلطة منذ الاستقلال لذلك ترى الشعب يطالب بالاستقلال في مظاهراته و خرجاته  و من ثم فالمسار التأسيسي هو الذي يمكن من إجراء إصلاحات سياسية و إقتصادية و إجتماعية عميقة لا سيما في الظروف الحالية.

2°)-  الطريق الأقصر و الأقل تكلفة و الأقل مخاطرة:هذا القول يجانب الحقيقة إذ أنّ طريقة الجمعية التأسيسية هو الطريق الأسلم لربح للوقت و الجهد و المال.. ذلك أنه بالأخذ بالمسار التأسيسي سيتم القيام بالإصلاحات الدستورية( التي هي الأصل) ثم إجراء انتخاب كل الهيئات و المؤسسات المنصوص عليها في الدستور و منها انتخاب رئيس الدولة (الذي هو الفرع).. فلو بدأنا بالانتخابات الرئاسية فإنّ الرئيس المنتخب قبل أن يبادر بالإصلاحات الدستورية عليه أن يحل المجالس المنتخبة بالتزوير ثم تجرى انتخابات لهذه المجالس النيابية و المحلية ثم تتم الإصلاحات الدستورية.. فكيف يكون مصير الرئيس المنتخب و المجالس المنتخبة إذا تقرر في الدستور تقليص صلاحيات الرئيس أو الأخذ بنظام الحكم البرلماني أو إلغاء أحد المجالس النيابية (مجلس الأمة).. هنا سنكون مضطرين لإعادة  انتخاب كل هذه الهيئات و المؤسسات و هذا هدر للوقت و المال و الجهد.. فأسلوب الجمعية التأسيسية سيجنب البلاد كل هذه السلبيات.في ظل الدستور الحالي لا يمكن إجراء إصلاحات سياسية ودستورية إلا في مدة لا تقل عن خمس سنوات بينما في ظل المسار التأسيسي فإنه يتم ذلك في مدة لا تتجاوز السنتين(2) (مرحلة انتقالية يتم خلالها وضع دستور جديد)..في ظل النظام السياسي القائم و الدستور الساري المفعول و المنظومة القانونية الجاري بها العمل لايمكن القيام بأي إصلاحات حقيقية و تغيير جذري على منظومة الحكم و إدارة الدولة بالنظر إلى أن الدولة العميقة و الثورة المضادة ممسكة بمفاصل الدولة و مقاليد الحكم(المنظومة السياسية، المنظومة العسكرية و الأمنية، منظومة الإدارة و القضاء، المنظومة المالية و الإقتصادية، المنظومة الإعلامية و الدعائية..) و ستعمل كل ما في وسعها لإفشال أية عملية إصلاح أو تغيير نحو الأحسن خوفا على مصالحها غير المشروعة.

3°)- الطريق الضامن لإحداث قطيعة مع النظام السياسي القائم و بناء نظام سياسي جديد: إنّ الإنتخابات الرئاسية التي تقام ضمن النظام السياسي و منظومة الحكم التي ثار عليها الشعب الجزائري لا يمكن أن تؤدي إلى تجاوز الأزمة و الخروج من الانسداد الحاصل و إحداث قطيعة مع ممارسات الحكم الاستبدادي الفاسد فمن كان سببا في الأزمة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون سببا في حلها.. فالمسار التأسيسي هو الطريق الضامن لإحداث قطيعة مع النظام السياسي البائد المبني على الاستبداد و الفساد و الذي تأسس بالعنف و القوة الغاشمة و تزوير الإنتخابات و الرشوة و شراء الذمم. و هذا  بإسقاط دستور الفساد و الاستبداد الذي لم يشارك الشعب الجزائري لا في مناقشته و لا في إقراره،.. فالثورة ضد النظام القائم تشمل أيضا و بالأساس الثورة ضد الدستور و التشريعات، الثورة ضد الهيئات و المؤسسات، الثورة ضد الرموز و الشخصيات.. و بالنتيجة لا يمكن الإبقاء على المنظومة الحاكمة و الاحتكام إلى دستورها وقوانينها و تشريعاتها.. فمابني على باطل فهو باطل..

4°)- حصول انسداد داخل الجمعية التأسيسية: و هذا قول مجانب للحقيقة إذ أن الجمعية التأسيسية ما هي سوى هيئة ينحصر عملها في وضع و إعداد الدستور فقط، دون أن تملك الحق في مباشرة أي صلاحيات أو قرارات أخرى كالصعوبة في اختيار الوزير الأول، أو الاتفاق على تركيبة الحكومة، أو الموافقة على برنامجها.. فالجمعية التأسيسية في منظورنا لا تتدخل و لا تختص في المصادقة على الهيئات الحكومية و السلطات العامة ذلك أن هذا الأمر – في رؤيتنا – راجع إلى اختصاص برلمان الشعب الجزائري الذي يتولى القيام بهذه المهام..أما فيما يخص الانسداد فهذا تكذبه تجربة مصر (حزب البناء و التنمية) وهو بالمناسبة حزب إسلامي(حركة الجهاد و الجماعة الإسلامية سابقا) قد تنازل عن مقعديه(2) الذين حصلا عليهما بالجمعية التأسيسية لصالح التيار العلماني لأجل إنجاح عمل الجمعية التأسيسية و كذلك الأمر في تونس حيث تمت حالة من التوافق التام بين الأحزاب الثلاث التي فازت بالانتخابات وشكلت حكومة « الترويكا » و أجازت دستورا توافقيا مكنهم من تجاوز الخلافات (قارن بين الجزائر و تونس) و كذلك في كينيا و نيبال و جنوب إفريقيا و غيرها من الدول و البلدان التي عرفت أزمات حادة أو ثورات شعبية..و يمكن تجاوز الانسداد – إن حصل– بأن يكون النص ّ الدستوري معبرا عن تطلعات أوسع ما يمكن من الفئات والأطياف الممثلة للشعب نظرا لأهمية الدستور.. و لتحقيق ذلك وجب التأكيد ضمن النظام الداخلي للجمعية التأسيسية على ضرورة العمل على اتخاذ القرارات بالتوافق قبل اللجوء إلى تحكيم الأغلبية عبر التصويت. و في صورة استحالة التوافق، تدون أهم نقاط الخلاف في صلب المشروع و تعرض على الجلسة العامة التي تحسم في المسألة. وفي غياب التوافق يؤخذ القرار بتصويت أغلبية أعضاء الجمعية التأسيسية.

5°)- نشوب صراع مشاريع الدستور الجديد دون حكم أو وسيط شرعي يمد جسور بين الأطياف السياسية: لا يمكن تصور نشوب صراع حول مشاريع الدستور الجديد، وحتى و إن حصل صراع فإنه يحسم ضمن قواعد عمل الجمعية التأسيسية المصادق عليها من قبل برلمان الشعب الجزائري الذي ينتخبه الشعب الجزائري و الذي سيكون أعلى سلطة في المرحلة الإنتقالية فالبرلمان الجزائري هو الذي ينتخب (في رؤيتنا) الجمعية التأسيسية و هو الذي يحدد نظام عملها و قواعد سيرها و كيفية اتخاذ القرار أو التصويت على مشروع الدستور ثم تكمله الجمعية التأسيسية بلائحة داخلية تفسر و توضح وتفصل ما تم إجماله ضمن القانون المتعلق بالجمعية التأسيسية فهناك رقابة من قبل البرلمان الشعب الجزائري على عمل و نشاط الجمعية التأسيسية من حيث أنه هو الذي أوجدها و منحها سلطة كتابة وصياغة الدستور.. فالبرلمان من حيث أنه هو أعلى سلطة في المرحلة الإنتقالية هو الحكم بين الفرقاء و الهيئات ذلك أنه هو الذي منح الشرعية لكافة مؤسسات المرحلة الانتقالية(رئيس الدولة المؤقت، الحكومة، الجمعية التأسيسية، الهيئة الوطنية لتنظيم الانتخابات…) و يمكنه التدخل في أي مرحلة من مراحل إعداد الدستور..ففي المحصلة فإن البرلمان هو الحكم أو الوسيط الشرعي الذي يمد جسور بين الأطياف السياسية المشكلة للجمعية التأسيسية بالنظر أنّه مكون من كافة الأطياف السياسية و الإتجاهات الإيديولوجية الغالبة في المجتمع الجزائري و أنّه هو الذي ينتخب أعضاء الجمعية التأسيسية و ينظم عملها و يمكنه التدخل لإزالة أي عراقيل أو فض أي نزاعات التي يمكن أن تحصل بين أعضاء الجمعية التأسيسية.

6°)- ظهور الخلافات الإيديولوجية و السياسية و الهوياتية و الثقافية و الاقتصادية و الاجتماعية قد تؤدي بالبلد نحو المجهول: إنّالاختلاف سنة إلهية و حقيقة كونية وطبيعة بشرية فالتعددية هي مبدأ وقيمة، لقد خلقنا الله مختلفين: »و لا يزالون مختلفين و لذالك خلقهم« (قرآن كريم) واختلاف البشر يجب أن يكون اختلاف تنوع، و اختبار الحياة هو إدارة هذا الاختلاف. فجميع المواطنين لهم الحق في الوجود والمشاركة في الحياة السياسية و الإجتماعية و الاقتصادية و الثقافية. لذلك وجب رفض كل معاني الاحتكار والاستبعاد و أشكاله،و عدم السماح بتحول الاختلاف إلى خلاف و تناحرٍ يستفيد منه أعداء البلاد.. فظهور الخلافات الإيديولوجية و السياسية و الهوياتية و الثقافية و الاقتصادية و الاجتماعية في أي مجتمع أمر طبيعي، فلا يمكن تصور مجتمع يتمتع بالحريات الفردية والجماعية و تسود فيه حقوق الإنسان وتحكمه الديمقراطية الحقّة، تنعدم فيه الخلافات الإيديولوجية و السياسية و الهوياتية و الثقافية و الاقتصادية و الاجتماعية،اللّهم إلا في الأنظمة الاستبدادية التي تنكر وجود خلافات أيّا كان نوعها..و لا يمكن لعاقل أن يدعي بأنه سيأتي يوم تنقضي فيه الاختلافات و تنقرض فيه الخلافات.. فكثير من الدول و المجتمعات توجد بها أفكار و ديانات و معتقدات و إيديولوجيات مختلفة بل و مناقضة أمكنها أن تتعايش فيها في إطار من الاحترام و القبول..والواضح أنّ إدعاء أن المرحلة الانتقالية الطويلة والجمعية التأسيسية، ستغرِق البلاد في نقاشات ساخنة وخلافات حادة وصراعات لا نهاية لها على مسائل الهوية أساساً، وخاصة الدين واللغة، وحتى الانتخابات، هو طرح خاطئ لا أساس له من الصحة فهذه المسائل إمّا أن تحسم من خلال تصويت الجمعية التأسيسية أو يعرض الأمر على الشعب للفصل بين كل الخيارات المطروحة على الساحة بخصوص هذه المسائل و القضايا.

7°)- صراع بين المجلس التأسيسي والهيئة الرئاسية المعينة: لا يمكن تصور نزاع بين المجلس التأسيسي والهيئة الرئاسية (المعينة في نظر أنصار المسار الانتخابي)، ذلك أنه في مشروعنا فإنّ كل هيئة ستكون منتخبة من قبل البرلمان و محددة صلاحياتها إما في الإعلان الدستوري الذي يعد الدستور المؤقت للدولة خلال المرحلة الإنتقالية أو يعتبر دستور الدولة الذي يحكم فترة المرحلة الإنتقالية و الذي يحدد اختصاصات و صلاحيات مؤسسات المرحلة الإنتقالية ومنها صلاحيات رئيس الدولة المؤقت الذي ينتخبه البرلمان و ليس الشعب مباشرة أو القانون الذي يصدره البرلمان و الذي يحدد صلاحيات و اختصاصات الجمعية التأسيسية..فكل مؤسسة من مؤسسات المرحلة الإنتقالية تؤدي عملها ضمن الإطار القانوني المحدد لها و في حالة الاختلاف و حصول نزاع يعرض الأمر على هيئة رقابة دستورية تنشأ بموجب الإعلان الدستوري وهي التي تفصل بين أطراف النزاع.

 8°)- صياغة الدستور ستُعَمَّر لا محالة و ستدوم سنوات طوالا: إنّ مدة انجاز الدستور في المسار التأسيسي محددة زمنيا ضمن قانون يعده و يصادق عليه برلمان الشعب الجزائري الذي هو أعلى سلطة في المرحلة الإنتقالية و التي لا يمكن أن تتجاوز بأي حال من الأحوال سنة واحدة على أقصى تقدير.. فمشاريع الدساتير جاهزة و يكفي عرضها على الجمعية التأسيسية و لجانها المتخصصة لكي تتم مراجعتها و إثراؤها و تعديلها ثم تصاغ صياغة أولية – كمشروع دستور – الذي يعرض للنقاش العام على الشعب الجزائري لأجل تقديم الملاحظات و إدخال التعديلات و بعدها تتم الصياغة النهائية التي يصوت عليها من  قبل الجمعية التأسيسية ثم يعرض على البرلمان للتصويت عليها ثم على الشعب الجزائري لإقرارها نهائيا و هذه العملية لا يمكن أن تتجاوز في أقصى تقدير عاما واحدا.

9°)- صراع الشرعيات على طول هذه المدة قد تتولد عنه تهديدات وأخطار: لا يمكن تصور أي صراع بين الشرعيات ذلك أن الشرعية الوحيدة الموجودة خلال المرحلة الانتقالية هي الشرعية التي يمتلكها البرلمان المنتخب من قبل الشعب الجزائري.. فهو الذي يمنح الشرعية لكل مؤسسات المرحلة الانتقالية: رئيس الدولة المؤقت، الحكومة الإنتقالية، الجمعية التأسيسية، و أخيرا الهيئة الوطنية المستقلة لتنظيم الإنتخابات، وبالنتيجة فلا تعلو عليه أي شرعية  فلا يمكن تصور وجود صراع بين المؤسسات أو ما يسمى بالشرعيات ذلك إنه بالنظر إلى أنّ كل مؤسسات المرحلة الإنتقالية محكومة بالإعلان الدستوري أو بقوانين تصدر عن برلمان الشعب الجزائري.. فالتهديدات والأخطار لا يمكن أن تظهر خلال المرحلة الإنتقالية اللّهم إلاّ إذا صدرت من الدولة العميقة و الثورة المضادة التي ستعمل كل ما في وسعها لعرقلة كل محاولات النهوض و إبطال كل سعي للإصلاح خوفا على مصالحها غير المشروعة..أمّا التهديدات و الإخطار الخارجية فإنّها تؤخذ بعين الإعتبار ويمكن مواجهتها بتوحد الشعب الجزائري ورفضه لكل أشكال التدخل في شؤونه الداخلية.

ثانيا- حجج وتبريرات الأخذ بخيار المسار التأسيسي

فالمسار التأسيسي الذي يصرّ عليه قسم كبير من الشعب يبدأ بتنصيب مجلس حكم رئاسي يشرف على إعداد وبلورة أرضية سياسية تصاغ في شكل إعلان دستوري يؤسس لمرحلة إنتقالية على أساس من الشرعية الشعبية تفضي إلى انتخاب جمعية تأسيسية لأجل كتابة وصياغة مشروع دستور دائم للدولة الجزائرية يستفتى عليه الشعب ثم يجرى انتخاب كل الهيئات المنصوص عليها دستوريا. و تأسيسا لهذا المسار فإننا نقدم جملة من الحجج و المبررات التي تدعم الأخذ بهذا الخيار و هي على النحو التالي:

1°)- الجمعية التأسيسية تؤكد يقينا قدرتها على تغيير النظام: فالشعب الذي ثار على منظومة الحكم الفاسدة لا يقبل إطلاقا أن يستمر في أن يحكم بنفس المنظومة الدستورية و القانونية.. فالثورة ضد النظام القائم تشمل أيضا و بالأساس الثورة ضد الدستور و التشريعات، الثورة ضد الهيئات و المؤسسات، الثورة ضد الرموز و الشخصيات.. و بالنتيجة لا يمكن الإبقاء على المنظومة الحاكمة و الاحتكام إلى دستورها وقوانينها و تشريعاتها؟؟؟ فما بني على باطل فهو باطل.. فبعد ثورة، لا بد من القضاء على جميع مكونات النظام الاستبدادي و الفاسد من تشريعات (دستور وقوانين و معاهدات) و مؤسسات و أجهزة(مجالس نيابية مزورة، و مجلس دستوري..) و أشخاص و رموز و شخصيات (العصابات الحاكمة)،  و من ثم لا يمكن لهذه المكونات أن يكون لها موقع قدم أو مكانة في المشهد السياسي أو مشاركة في بناء النظام السياسي الجديد..فالدستور الحالي وضع من قبل أشخاص وهيئات غير شرعية و لم يقرّه الشعب بإرادته السيّدة.. فكيف يحتكم إليه لإجراء انتخابات أو إصلاحات و هو لم يقرّ من الشعب و ليس له أدنى قدر من المشروعية.فالجمعية التأسيسية بامتلاكها لسلطة وضع الدستور الذي يعد القانون الأعلى للدولة ستتمكن من وضع قواعد دستورية و أحكام تأسيسية من شأنها ابعاد كل من تورط في الفساد و الاستبداد من الوصول إلى السلطة – بل ستمنعهم حتى من مجرد التفكير في العودة إلى الحكم – ذلك أن الجمعية التأسيسية ستحدث تغييرا جذريا في النظام السياسي و  لمنظومة الحكم بما تحققه من قطيعة بائنة مع ممارسات النظام الاستبدادي والفاسد. 

2°)- الرئاسيات لا يمكنها تجاوز الانسداد الحاصل الآن(الأزمة): إنّ الذهاب إلى انتخابات رئاسية أو برلمانية في منظومة الحكم الحالية لا يؤدي سوى إلى إعادة إنتاج نفس السياسات بوجوه جديدة.. فنفس المقدمات(المدخلات) تؤدي إلى نفس النتائج(المخرجات) فالإصرار على مسار الإنتخابات الرئاسية لا يؤدي إلاّ إلى إعادة إنتاج نفس النظام الفاسد بوجوه جديدة. فالرئاسيات ستؤدي حتما إلى تفاقم الانسداد و تزايد الأزمة بما تثيره من انقسام مجتمعي و رفض شعبي كبير لاعتقاد قسم كبير من الشعب أن الرئاسيات ما هي سوى وسيلة لتجديد النظام و ليس تغييره و من ثم سيؤدي ذلك بقاء الأوضاع على حالها و بالنتيجة لا تتحقق مطالب الشعب في التغيير مما يؤدي إلى بقاء حالة الانسداد بل و تفاقم الوضع السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي بسبب عدم ارتكاز السلطة التي تفرزها الانتخابات على قاعدة شعبية تمكنها من إجراء الإصلاحات المرجوة التي يطالب بها الشعب الجزائري من خلال مظاهراته العارمة في ربوع الوطن.

3°)- طريق الرئاسيات مشكوك فيه عكس الجمعية التأسيسية: لقد وعد العسكر عدة مرات بإجراء انتخابات حرة و نزيهة لكنه سرعان ما انقلب على أعقابه و تراجع عن وعوده..ففي عام 1991 نظمت انتخابات و أسفرت عن نتائج لم ترض الطغمة العسكرية فقامت بانقلاب دموي. و في عام 1995 نظم العسكر انتخابات رئاسية فكانت مزورة بامتياز و فاز بها عسكري (جنرال) مغمور فلا عجب فلم ينافسه فيها سوى أرانب من عملاء العسكر و المخابرات و الدولة العميقة.. و في عام 1999 وعد العسكر بإجراء انتخابات حرة ونزيهة و نظيفة لكنهم انقلبوا على أعقابهم وتم التزوير الفاضح لصالح « مرشح الإجماع » الذي حكم البلاد بالفساد و الاستبداد و الرداءة و أحدث خرابا عظيما لم تعرفه أية دولة في العالم و هذا بدعم من العسكر وتأييد منهم..و من ثم فلا ثقة و لا أمان في العسكر الذين أصبحوا يمسكون بزمام الأمور ومقاليد الحكم في الوقت الراهن لإجراء انتخابات حرة و شفافة و نزيهة.    

4°)- المسار التأسيسي يحقق القطيعة مع النظام الاستبدادي و الفاسد: يبدأ المسار التأسيسي بعد إعتراف من السلطات الحاكمة بالظلم و الجور المسلط على الشعب الجزائري منذ عام 1962، تاريخ استعادة الاستقلال الشكلي للبلاد و بمصادرة سيادة الشعب الجزائري في تقرير مصيره و اختيار حكامه بكل حرية و شفافية و نزاهة. فالقطيعة مع النظام السياسي البائد المبني على الاستبداد و الفساد و الذي تأسس بالعنف و القوة الغاشمة و تزوير الإنتخابات و الرشوة و شراء الذمم لا يمكن أن تتحقق إلاّ ضمن المسار التأسيسي. فالمرحلة الانتقالية التي يتم خلالها المسار التأسيسي ستجسد فعليا قطيعة مع النظام الاستبدادي و الفاسد بإسقاط كل منظومة الفساد و الاستبداد و تجريف كل ما تركته من أثار و ما خلّفته من دمار .

5°)- التزوير لا يمكن أن يحدث في المرحلة الانتقالية(المسار التأسيسي): يبدأ المسار التأسيسي بعد إعتراف من السلطات الحاكمة بالظلم و الجور المسلط على الشعب الجزائري منذ عام 1962، تاريخ استعادة الاستقلال الشكلي للبلاد و بمصادرة سيادة الشعب الجزائري في تقرير مصيره و اختيار حكامه بكل حرية و شفافية و نزاهة  و من ثم فاستمرار الزخم الثوري و تواصل الفعاليات الثورية خلال فترة المرحلة الانتقالية سيمنع التزوير لأنه ببساطة سيتم اجتثاث منظومة الفساد و الاستبداد التي دأبت على تزوير كل الاستحقاقات الانتخابية بينما التزوير هو صفة ملازمة للنظام القائم.. فالتزوير لا يمكن أن يحدث في المسار التأسيسي أي خلال المرحلة الانتقالية ذلك أن كل ركائز و أدوات منظومة الحكم الفاسدة و الاستبدادية سيقضى عليها خلال هذه المرحلة قضاء مبرما.

6°)- في حالة خيار الرئاسيات النظام السياسي القائم سيمكن من تقديم مرشحه: حيث لا يمكن منع أتباع النظام القائم من المشاركة في المنافسة الانتخابية لأنها تجرى في ظل الدستور القائم الذي يعطي الحق(نظريا) لكل شخص سواء كان من أتباع النظام أو ممن يعارض النظام ويريد إسقاطه من الترشح للانتخابات بينما في المسار التأسيسي لا يجرؤ أيّا من أتباع النظام البائد من الترشح لأية انتخابات لاحقة بعد سقوط النظام و القضاء عليه في جميع أسسه و مظاهره و ركائزه.. و هذا ما لاحظناه في بلدان الربيع العربي حيث انكفأ رموز و أنصار النظام السابق و أتباع المنظومة البائدة على أنفسهم و تواروا من الوجود بل و استحيوا من الظهور مجددا في المنافسات الانتخابية خوفا من عقاب الجماهير الذي كان ينتظرهم و لعنات الشعب التي كانت ستطالهم لا محالة.

7°)- الجمعية التأسيسية تمنع التفرد بالحكم وصياغة مسار إصلاحي من قبل اتجاه سياسي واحد: من حيث أنّه ستتحقق مشاركة كل الأطياف السياسية و كل الاتجاهات الإيديولوجية في إدارة هيئات و مؤسسات المرحلة الإنتقالية دونما هيمنة تيار سياسي واحد أو فصيل إيديولوجي معين بالنظر إلى الشعب الجزائري و أطيافه السياسية قد استوعبت الدرس و استفادت من إخفاقات الطبقة السياسية في الجزائر و حركات التغيير في بلدان الربيع العربي و أنه لا يمكن لأي تيار سياسي مهما كان أن يحدث التغيير و الإصلاح السياسي بمفرده دونما تظافر كل الجهود و تعاون كل الإرادات للقضاء على دولة الفساد و الاستبداد و إحلال محلها دولة الحق و العدل و الحرية والقانون.

8°)- إمكانية تحقيق الانتقال الديمقراطي: في ظل المرحلة الإنتقالية و المسار التأسيسي فإنه لمن السهولة بمكان أن يتحقق الانتقال الديمقراطي و العبور من دولة الفساد و الاستبداد إلى دولة الحق و العدل و الحرية و  دولة القانون.. فإمكانية تحقيق الانتقال الديمقراطي ستكون أسهل و أيسر في ظل هذا المسار لتوافر عناصر النجاح و على رأسها التقاء رغبة قطاعات واسعة من الشعب ومطالبته بالتغيير الجذري و الانتقال إلى دولة المؤسسات و الحريات مع إرادة الطبقة السياسية التي ستتولى زمام الحكم و إدارة الدولة خلال المرحلة الإنتقالية.. بينما في ظل المسار الرئاسي فإنّ كل العوامل و الظروف التي تحيط بهذا المسار لا تساعد إطلاقا على تحقيق هذا الهدف و إنجاز هذا المشروع بالنظر إلى الأوضاع ستبقى على حالها في ظل امساك الدولة العميقة على مفاصل الدولة و منابع السلطة.

9°)- مواطن الانسداد أكثر في الرئاسيات منها في المسار التأسيسي: أكبر انسداد و أعظم عقبة هي مسألة إجراء انتخابات مرفوضة من قبل قطاع واسع من الشعب لا سيما الذين يخرجون في المظاهرات كل يوم جمعة و ثلاثاء ثم تليها إشكالية وضع الدستور إن كان ذلك في أجندة المترشحين للانتخابات و إشكالية التعامل مع المجالس المنتخبة(المزورة) و كيفية إعادة انتخابها، تغيير السفراء و الولاة و رؤساء الدوائر الذين عينهم النظام السابق، و تحقيق الدولة المدنية في ظل هيمنة العسكر على الوضع السياسي و إدارة الدولة.   

و تأسيسا على ما تم بيانه و بناء على ما سبق ذكره،

فإنّ المسار التأسيسي يحقق التغيير الذي يدعو إليه الحراك و ينادي به النشطاء و الطبقة السياسية النظيفة بأسرع الطرق و أقلها تكلفة و أكثرها ضمانا و أقلها مخاطرة.. و سيتحقق أمال الشعب في العيش في كنف دولة الحق و العدل و الحريات.. و ستتحقق نقلة نوعية نحو مرحلة جديدة و نظام سياسي جديد يؤدي حتما إلى التخلص من حكم العسكر و يحقق الدولة المدنية .. بينما المسار الانتخابي لا يحقق التغيير المنشود اللّهم إلا تغيير وجوه قديمة بوجوه جديدة و حتى هذا ربما لا تتحقق.. فالرئاسيات – مهما كان الرئيس الفائز – لا يمكن أن تحقق إصلاحا جذريا على النظام السياسية و منظومة الحكم و لن تعيق استمرارية النظام الاستبدادي و الفاسد و هذا سيؤدي حتما إلى ظهور حالة من الإحباط لدى الشعب عامة و النشطاء و الحالمين بالتغيير و غد أفضل للبلاد و العباد خاصة لا تنقشع إلا بظهور موجة ثورية جديدة تستخلص الدروس و العبر من الإخفاقات و الفشل الذي حصل بعد قيام الثورة و الحراك المبارك..فقد ثبت من مختلف التجارب الدولية أن مخاض المرحلة الانتقالية يكون عسيرا لكنه مسار مضمون النتائج وما حالة تونس إلاّ دليل على ما نقول بالرغم من النقائص و الإخفاقات المسجلة و المؤامرات التي حيكت لإجهاض هذه التجربة.

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici