الأيديولوجيا، الثورة والانتخابات.. أدوات ارتكاس مشروع إعادة البناء الوطني

0
1510

 28/10/2019

بشير عمري

عبرت قطاعات واسعة من الشارع الجزائري عن امتعاضها من بعض الصور والحوارات الصحفية المستفزة لبعض المترشحين للرئاسيات المقررة يوم 12 ديسبمر، ممن يرفضهم شباب الحراك، لا فقط لكون أولئك المرشحين هم نتاج عهد الاستبداد والفساد وأدة تبريره السياسة، قبل تفجر الحراك الثوري ليوم 22 فبراير، وكان يفترض أن يجرفهم المد الثوري الشعبي ويجليهم إلى حيث الأقاصي المنسية في الذاكرة السياسية الجزائرية، بعدما أفلتوا من الآلة القضائية لأسباب تظل غير مفهومة، فإذا بهم يتحرشون بمنصب القاضي الأول في البلاد، ما أفرغ العملية الانتخابية مسبقا من جوهرها، وأفقدها ذاك القليل مما أُفترِض أن  تحمله من مصداقية لدى الشعب الذي لا يزال متحفظا من خطة “التطبيع السياسي” القسري التي رُسمت بشكل فوقي خارج الإرادة الحرة للفاعل السياسي والاجتماعي الحقيقي.

لكن ثمة من استدار باللائمة في مخاطبة الفاعل السياسي الحقيقي، ليس لامتناعه عن الترشح، لأن ذلك قد يكون له ومؤكد له ما يبرره، من إصرار السلطة الفعلية على تمرير الانتخابات مهما كلفها وكلف معها البلد من ثمن، بل لعدم قدرته على المناكفة السياسية للإرادة السلطة الفعلية تلك، ما جعل الكثيرين يطرحون الأسئلة المقلقة المتعلقة بأسباب ذلك الفشل، كيف حدث؟ ما أسبابه؟ وما هو محتمل مآلاته؟

اللا جدوى الأيديولوجية والتعددية المنتهية !

يمكن اعتبار فجر التعددية الذي بزغ من دستور 1989 بداية الخطأ الاستراتيجي في مسعى استئناف التاريخ الوطني لما قبل لحظة الاستقلال، أي ذلك التاريخ الذي أفرزته تجربة الحركة الوطنية بشتى مشاربها ومدارسها من وعيها الظرفي الكولونيالي، إذ في الوقت الذي كان يفترض بالأحزاب السياسية، لا سيما منها تلك التي تمتد فكرا وممارسة في عمق مسار الرفض للمشروع الوطني لدولة الاستقلال التي تبنتها جماعة وجدة، أن ترتجع روحا ومنهجا إلى لحظة التداعي الأول لمشروع ثور التحرير، حين تبنت أولوية الوطن على الحزب  مع تصحيح التجربة الاتحادية كآلية لتحقيق الحرية، بعدم الانصهار العضوي في بوتقة سياسية واحدة، راحت تلكم الأحزاب تعتقد في طبيعة الحرية والحق في التعددية المعطاة غير المنتزعة من نظام دستور 89.

هكذا انطواء أيديولوجي حزبي احترابي في جل الأوقات، مضت عليه البداية التعددية الثانية في التاريخ السياسي الجزائري، جعل النظام في أريحية نسبية من إرادة الاقتلاع التي كانت تستهدفه بعد انتفاضة أكتوبر 1988، ولعله تفطن إلى ذلك وسارع إلى اعتماد أحزاب نقيضة ومتناقضة إيديولوجيا، رغم تنصيص الدستور على عدم منحها الترخيص كونها تتأسس على جزئيات من الهوية المشتركة للشعب كالإسلام والامازيغية، فاعتمد حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ذي الاتجاه الأسلامي السلفي، في اللحظة ذاتها الني اعتمد فيها نقيضها اللائكي الفرانكفو- بربري حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، لمعرفته بما سيتطور من سجال واقتتال بين هذين التيارين ما يفرض عودة دولة القبضة الحديدية التوحيدية الوحيدة لهذا الشعب، وهو ما حصل بعد ظهور نتائج الانتخابات التشريعية ليوم 26 ديسمبر 1991 أين جيش التيار اللائكي الفرنكو بربري في ميسرات تمهيدا لوقف المسارين الانتخابي والديمقراطي معا بداعي عدم جاهزية المجتمع الجزائري لأساسي هذين المسارين (الديمقراطية والانتخابات) وهما الحرية والتعددية.

وطبعا كلفت بادرة النظام تلك البلد ثمنا باهضا بشريا وماديا، ما جعل الظاهرة الحزبية في الجزائر تقترن في مخيال المواطن بالدمار والخراب، فاعتورت بذلك التعددية وهجرها الناس ناكصين على أعقابهم، عائدين إلى مؤسسة الشخص الزعيم الحاسم، فاعشوا في كنف تجربة مرة لبوتفليقة دامت 20 سنة ظهرت فيها الأحزاب متجردة من الأيديولوجيات لكن متلبسة بالفساد، ما سدد الضربة القاضية للتعددية في الوعي الوطني الجزائري.

عندما كان الوطن فوق الايدولوجيا

لماذا نجح سياسيو الحركة الوطنية لما تداعوا لنداء التغيير الثوري إبان فترة الاستعمار، وعجزت أحزاب التعددية الثانية للجزائر بعد تلك الأولى التي سبقت ثورة التحرير الوطني عن استنساخ تلكم التجربة والمضي فيها؟

ببساطة لأن تلكم الأحزاب كان تحمل مشروع ووعي الحرية قبل الحق، التضحية قبل الغنيمة، التحرر الوطني الذي يسبق أي حقوق أيديولوجية لأفراد أو جماعات، فالكون كله كان مختزلا في فكر تلكم الجماعات في الوطن، بينما جعلت أحزاب التعددية الثانية لدستور 1989 مبدأ الحق في الإرث السلطوي مطلبا لها، على حساب تحرير الفكر وتحييد الاستبداد ومطارقه التي لم تغب عن ثقافة السلطة ولا مشروعها، بل كانت في لحظة وقف التنفيذ إلى حين ليس إلا.

فواضح إذن أن نخب التعددية لثانية انطلقت في نشاطها خاطئة قاطعة مع الذاكرة السياسية الوطنية، غير متدبرة لكرونولوجيا الإخفاق الوطني في التأسيس لدولة متمتعة بزخمها المتعدد ورصيدها من الكبير من التنوع، ساعية عبر صراعها الأيديولوجي لأن تتمركز في التاريخ الوطني.

“استوراش” العقل طريق لإعادة التأسيس الوطني

في الحقيقة مثل فشل أو إفشال مشروع التعددية الثانية التي جاء بها دستور 1989 لأسباب متصلة كما أوضحنا بعدم قدرة النخب السياسية الجديدة على قراءة التجربة السياسة للحركة الوطنية، والبناء على أخطائها، وأسباب أخرى متعلقة بعدم رغبة النظام في التحول إلى التعددية الفعلية غير الصورية- مثل  – مصدرا رئيسا للإخفاق الوطني في الانتقال السياسي، بسبب ذلك الإشكال العميق في عدم القدرة على تفعيل الوعي التغييري الذي وبلغه المجتمع الجزائري، فرفض الشعب للحزبية بوصفها أساس التعددية السياسية، وغياب الأطر السياسية من أحزاب وجماعات ذات مصداقية، حرم الشارع من سند التوجيه والتأطير باتجاه تحقيق التغيير الثوري الواعي، وأعطى بالمقابل فرصة أحزاب السلطة الفاسدة المفسدة الخالية من أي قواعد جماهيرية من أن تطفو مجددا على السطح لتنفذ رغبة السلطة الفعلية في إضفاء الديكور الديمقراطي على قوقعة التعددية الهشة الفارغة، وعليه بات لا مفر لمثقفي الحراك من الاستوارش العقلي وعدم الاكتفاء بالتمشي في قارعة الشوارع من أجل تقوية وتعميق الوعي بالتغيير حتى يرقى من المطلبية إلى المشروع.

بشير عمري

كاتب سياسي جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici