تراجيديا المعارضة الجزائرية في القطيعة القاتلة مع العقل الوطني الأول

0
160

بشير عمري19 أغسطس، 2020 https://22arabi.com/

دائمًا في سياق الحديث عن أثر غياب فقه الماضي في أزمة الحاضر السياسي الجزائري، ذلك الغياب القاتل الذي استحالت بسببه كل سبل التغيير والانتقال الديمقراطي الذي لا يحدث سوى بقطائع موضوعية ناشئة عن وعي بضرورة أن يُحتفظ بالتاريخ كسلسلة متواصلة تخدم الأمة كبوصلة في تماشيها الحضاري صوب الآفاق وليس اجتزاءه بالرفض والإنكار على غرار ما تفعله المعارضة الجزائرية ما قد يحدث فراغات أخرى في الذاكرة تكون بذور لإشكالات جيلية قادمة تسأل عن أسبابها وتعيد تأويلها وفق خلفياتها الأيديولوجية في نطاق نظرية المؤامرة والصراع الفكري والأيديولوجي الذي حدث في صدر الوطنية الأولى.

وهنا لا بد أن نطرح ظاهرة قلَّما التفت إليها نقاد السياسة والمتتبعين للحالة الجزائرية في التغيير والصعوبات الدائمة والدموية التي لازمته، وهي ظاهرة عدم التلاقي والتلاقح الجيلي الذي كان سيخدم السياسة بتمتين مشهدها وتصحيح مساراتها فيما لو عقل مراهقو السياسة من جيل التعددية الأولى الذي ظهر في بعشواء بساحة الصراع السياسي، قاطعًا مع رأس الخيط كما يقال، حاسبًا أن الماضي لا يعنيه، متناسيًا أنه يعني الجزائر التي تبدأ من قبل أن يولد بيولوجيًا وأيديولوجيًا، جهل استثمر فيه النظام على رقعة شطرنجه ليروض جموح أولئك المراهقين ويظهرهم أمام الشعب خطرًا عليه. وبالتالي يعود الشعب القهقري عن موقفه المعادي للنظام.

المعارضة الجزائرية
 حركة جيش الحدود في الجزائر

ثلاث شخصيات قادمة من رحم الوطنية الأولى، حضرت المحفل التعددي (1989) في مولده وواكبته في فتوته، لكنها لم تستطع التأثير بثقل إرثها في ذلك الجيل الجموح لأسباب عدة أبرزها الجموح ذلك نفسه، الذي كان من الحدة والشراسة بحيث استحال معه السيطرة أو التأثير، كما أن الأجهزة المعادية لخط الإصلاح السياسي الذي فرضته انتفاضة أكتوبر 1988 اشتغل بلا هوادة على ضرورة أن يرتكس مشروع التغيير والانتقال السياسي مهما كلف ذلك من ثمن.

قدم تلك الشخصيات الثلاث الذين يمثلون المعارضة الجزائرية من أقصى الخلف، يسعون لتصحيح الوطنية التي تمت مصادرتها في الخطاب والسلوم مع ما تمت مصادرته من أشياء الاستقلال، كان يعني أن المشترك الوطني لم يكن كتلة صلبة يُثقل بها فرضًا على صدور وعقول الجزائريين، وبالتالي كان لزامًا الاستضاءة بحضورهم والاستفادة من طرحهم لمعاودة تفكيك العقدة الوطنية وتحرير السياسة بأثر رجعي ليلتقي الماضي بالحاضر فينشأ مسرح وطني طبيعي وموضوعي وليس مصطنع مبتور من البداية مجهول المقصد.

فزعيم مثل بن يوسف بن خدة رئيس الحكومة المؤقتة المنقلب عليها سنة 1962، والذي ناضل في فترة الاستقلال من أجل العودة إلى الشرعية، لم يُستغل من قبل التيار الاسلامي الذي اقترب منه بعد تحوله الفكري من اليسار إلى الوسط (الإسلام الوطني) ذلك لأن طرفي صراع الاستقطاب في الشارع الإسلامي (جبهة الإنقاذ الإسلامية) “السلفية” وحركة مجتمع السل “الإخوانية” لم تهتما بالبعد التاريخي في إشكالات الدولة الوطنية إلا ما كان منها على سبيل الخطاب الاستهلاك السياسي.

التاريخ لكلا الحركتين يبدأ من مشرق الأمة وينبغي أن يعود إلى هناك، والكل كان يركز على جملة “في إطار المبادئ الإسلامية” التي كان يشير إليها بيان أول نوفمبر 1954 بخصوص طبيعة الدولة المزمع إقامتها بعد تتويج الثورة التحرير بالإستقلال، للمحاجة بإسلامية الثورة وجهادها، في حين لم يفتأ الزعيم بن خدة في كل تدخلاتها يحاول رفع اللبس بالتأكيد على أن شعبية إسلام الثورة أي أنها كانت بالإسلام الشعبي خارج كل الأطر الحركية بل واستفاض بشجاعة في شرح طبيعة مساهمة جمعية العلماء المسلمين بيت الإسلاميين الأول في الجزائر في ثورة أول نوفمبر، مبرزًا بأنه لم يكن مباشر وإنما كان لها دور في الإرهاصات الأولى من خلال الدور الذي لعبته في تنشئة الأجيال على وعي صحيح بالهوية الوطنية.

رؤية ثاقبة صادقة من رجل استحب المبادئ عن المآدب في السياسة والحكم كان ينبغي سماعه والتمرجع له في فهم طبيعة النظام السياسي الذي أخرق واختلق مجددًا بعد الاستقلال، وواصل بشراسة هيمنته ليس فقط على المعارضة الجزائرية بل هيمن على الماضي والحاضر ويسعى إلى المستقبل، وعدم الإصغاء والتمرجع لهذا الزعيم، جعل الإسلاميين كبار في الشارع، صغار على رقعة الشطرنج السياسي إذ تلاعب النظام بفصيليهما (المغالب) الجبهة الإسلامية للإنقاذ والمشارك حركة “حمس” سياسيًا، وقصم ظهرهما شعبيًا بعدما أغرق الإنقاذيين في برك الدم في التسعينيات، أغطس الإخوانيين في وحل الفساد، واستراح من شبح ظلهما الذي كان وارفًا في الشارع.

ما قيل عن بن خذة ينسحب وينطبق تمامًا على اللائكيين الديمقراطيين الذين قرأوا التاريخ الوطني إلا من عيون الفكر والتجربة الغيرية، وحسبوا أن الاستئناس بالتراث الوطني ليس أكثر من تزيين للخطاب السياسي، في حين القطائع التامة والشاملة سلوكًا وتصورًا كانت مضمرة في نواياهم، لهذا من العبث بالمرة أن يصادفه رجوع حسين آيت أحمد، من منفاه التاريخي بسويسرا إلى أرض الوطن، حاملًا معه رصيدًا من الدراية بطبيعة تفكير نظام رفضه منذ سنة 1962، واستماتة في مقاومته ومقاومة إغراءاته ومطارداته له، موعد عقد خصمه في التيار (العلماني القبائلي) التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية مؤتمره التأسيس ربيع سنة 1989.

كان حسين آيت أحمد، أقل (قبائلية) من التيار الضرار الذي اعتمد من طرف دوائر النظام الخاصة وبسرعة على أساس تطرفه لكي يلعب دور مفسد الأفراح في المخطط الذي أعد سلفًا لإجهاض مسار التعددية السياسية، لهذا حين أفرزت الانتخابات صورة المشهد السياسي التعددي الأول بتتويج الجبهات الثلاث (جبهة الإنقاذ الإسلامي، جبهة التحرير الوطني وجبهة القوى الاشتراكية)، وحرص الأخيرة على مواصلة المسار الانتخابي من أجل استكمال بناء صرح الديمقراطية الفتية والنموذجية في المنطقة، سارع التيار الضرار (التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية) للاحتجاج والدعوة إلى توقيف المسار الانتخابي ولو أدى ذلك إلى توقيف المسار الديمقراطي كله!

آيت أحمد بمعرفته دقيقة للنظام كان يدرك بأنه لن يزول سوى بثقل شعبي موحد الكتل، في حين الجانب الآخر من المعارضة الجزائرية وهم الإسلاميون المسيطرون على السواد الأعظم من شارع الرفض السياسي هم وسيلة لا مفر منها لبلوغ ذلك الهدف شريطة الحضور معهم. خطاب لا يفرق بين مكونات التيار المعرفية السياسية وكلاهما له خصوصياته ومفرداته ومخرجاته في سياق واحد موحد من سعة التغيير.

عدم الانسجام مع رؤية آيت أحمد ودقيق حساباته في شطرنج الصراع مع النظام من أجل قلب اللعبة عليه وتقويضه، كانت له عواقبه على الديمقراطيين اللائكيين فيما بعد، حيث اسفرد بهم النظام وراح يفرغهم شيئًا فشيئًا من مصادر قوتهم الأولى مثلما فعل مع دعاة الثقافة الأمازيغية بسحب القضية منهم بشكل تدريجي وتوليها بطرق ملتوية عبر الدسترة الرسمية لها وإظهار العناية الإعلامية لها، وبالتالي خف وزن القضية الذي كان ثقيلًا على النظام لعقود.

ولم يكن التيار الوطني في صحوته السياسية التي قادها زعيم وطني آخر ممثلًا في شخص الراحل عبد الحميد مهري، أفضل حظًا من التيارين السابقين، فالرجل كان منسجمًا مع الإرادة الإصلاحية التي تحل بها تيار الرئيس الشاذلي وقتها، والتي كانت تروم تحرير الإرادة الشعبية من الوصايا التي نسج خيوطها ورسم خطوطها بإحكام نظام انقلاب 1962 واستحالت مع موت بومدين إلى أداة في يد جنرالات من صف الضباط السابقين الهاربين من الجيش الفرنسي عشية الاستقلال بعد أن تعاظم حضورهم في غرف القرار بالسلطة.

حرص مهري بذكائه وثقافته الوطنية على أن يندرج تياره الوطني في سياق التغيير ما كان سيمنحه الاستقلالية التامة عن هيمنة السلطة الخفية التي ظلت تتحكم فيه من الخلف وتملي عليه رؤى تضعه في موضع خائن أمانة الثورة التي كان هو مفجرها سنة 1954، ما جعل الشعب ينفر من هذا التيار وبالتالي ينفر من التاريخ الوطني، وهذا ليس له لعمري من تعبير قوي أكثر من أنه يعبر عن انفصال الدال عن المدلول في مشهد قاتم من التجربة القطرية للدولة في الجزائر.

الدال هنا هو التيار الذي عبر عن القضية الوطنية في صفاء صياغتها ومفهومها الأول، والمدلول هو الأداء السياسي المناقض الذي سلكه التيار بعد اختطافه ومصادرته ما يجعل الرؤية تتضح حول مأساة السياسة في الجزائر وجراحها التي لا تندمل بفعل المنطق اللاتاريخي المفروض عليها منذ الاستقلال منطق الغنائمية المتواصل والمستمر إلى اليوم.

فكما هو واضح إذن تحرير الوطنية من وصاية العسكرة شعورًا وسلوكًا وتأويلًا على أحزاب المعارضة الجزائرية والذي رامه مهري في مشروعه كان سيؤدي أو يساهم بشكل كبير في تحرير السياسة من قبضة الظلام الموجهة، لكن عدم صدق بعض الوطنيين وجل البعض الآخر وجشع البقية في البقاء للاقتات على فتاة موائد النظام، جعل مهري عرضة للتحييد، وبالتالي تجريد فترة التعددية الأولى من أبرز عناصر القوة التي كانت ستستكمل مسار التغيير الذي أتاحه دستور التعددية الأول سنة 1989.

هكذا إذن، تتجلى خطيئة القفز على ماضي التجربة التاريخية للسياسة بالجزائر التي مارستها تيارات، وبها ارتكست على رقعة شطرنج الصراع من أجل التغيير مع نظام قديم يحتل صادر الماضي ويحتل الحاضر ويقاتل من أجل البقاء في المستقبل، تيارات لم تعرف ذلك الماضي ولم تفهم معنى عبارة الطبيعة لا تحتمل ولا تقبل الفراغ، فظهرت طافحة على أرض ارتوت بسيول من الدم السياسي النازف بلا توقف.

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici