https://alsiasi.com/
بشير عمري
في ذكرى مجرزة بن طلحة الشنيعة التي أزههقت فيها أرواح أبرياء من أهل الهامش الجزائري الذي هو أول من يتألم بالوطن ومن أجل الوطن ودوما يتأمل العدل في توزيع الثروة، ذلك العدل الذي يدو أنه سيظل سرابا لهاته المناطق التي نُعتت في الخطاب الجديد للسلطة الجزائرية الجديدة بمناطق الظل – في هاته الذكري – يقف سؤال الحقيقة منتصبا، ليس فقط حول هوية مرتكبي تلك المجزة وغيرها من المجازر المروعة أو طبيعة العملية وما تداعى عنها من جدل، بل عن تلك الارادة في الابقاء على جراح التاريخ الوطني بيد أشخاص وتجريد المجتمع من حقه في الفهم ومن ثمة الحسم في قضاياه الكبرى بما يتيح له التأسيس على ركام تجاربه ومآسيه وجودا وطنيا حقيقيا في الوعي والممارسة.
ما الغرض من حجب الحقائق التاريخية عن الشعب وجعلها دوما من الأمور التي تتجاوز إرادته في الفهم والتفاعل؟ لماذا هاته الارادة في ممارسة الوصاية على قضايا الوطن الكبرى وجعلها ثقوب سوداء من دنى منها لا يمكنه العودة إلى الحياة؟.
ذكرنا في غير ما مناسبة أن منظومة الحكم بالجزائر ولكونها ولدت بشكل ناشز في التاريخ وهي على ذلك النشاز تمضي مستمرة في مناكفة متواصلة ومناطحة دائمة مع منطق السلسة والتاريخ، فهي غير متسامحة بالمرة مع من يجرؤ على الاقتراب من سرة حقائق هذا التاريخ الذي فيه تدفن كل مساوئها الكبرى مذ شرع مخاض الخلاف حول آليات قيادة ثورة التحرير مع بداية انقشاع أول شعاع لشمس الحرية والاستقلال مرورا بالانقلاب الأول سنة 1962 إلى آخر الاتقلابات على إرادة الشعب في ثورة الحراك التي ذكرتها لويزة حنون في آخر حوار لها مع إذاعة راديو آم، ولا يحسبن أحد أن معاناة أهل الصحافة والرأي اليوم ممن يقبع في سجن ليس امتدادا لإرادة قمع من يحاول الاستقلال في فهم وتصوير الحقيقة خارج الارادة والشكل الذي ترتضيه وتبغيه السلطة والمنظومة، ما يعني بالضرورة أن المنظومة لم تتغير بل لعل المعيار الأول لتأكيد حصول التغيير الحقيقي من عدمه صار يتمحور أو يتجلى في مدى رؤية إرادة تحرير الحقائق من قبضة الوصاية على التاريخ.
وهكذا ظلت حقائق الصراع الدموي وفتن السلطة بين الأشخاص والمجموعات على قيادة سلطة لثورة ثم السلطة على حيازة الثروة، قبيل وبعيد الاستقلال، ليس فقط مطمورة بل مزورة في الفضاء التداولي لسرديات التاريخ الوطني ومواضيع السياسة، وبسبب من هذا الانحراف عن العقل في التعاطي مع الميراث الموضوعي للشعب تساقطت الوطنية في أعين وضمائر الناس جيلا بعد جيل بعد أن تم تنضيبها بالكذب والتزوير من كل قواها ومفاتنها الأولى التي كانت بهما تجذب أوراح وأجساد الافتداء من أبناء الشعب !
فليس التاريخ، والحال هذه، بالشيء الهين الذي يمكن التلاعب واللعب بحقائقه من أجل أغراض آنية في صراع البقاء في السياسة والحكم، سرعان ما تفتر ويعود السؤال بحره وحرارته الأولى يفرض نفسه ويبسط بقلق جديد على مسرح النقاش الوطني، فتسييس التاريخ لا يخدم التاريخ السياسي للبلد بالمرة، وأي بلد لم يصطلح ويتصالح ما تاريخه بالشكل الأمثل لا يمكنه مطلقا تحقيق الانطلاقة نحو آفاق البناء الوطني السليم.
لقد حسب بوتفليقة ومن جاء به لـ”تبييض التاريخ” وليس للتصالح معه، أنه بوسع المنطق السياسوي الذي أعتمد في التعامل مع قضايا المجتمع المركزية والكبرى، عبر كامل مسارات تطور مطالبه الملازمة لتطور وعييه، أن يفصل أيضا في مسألة الدم بوصفها الانعكاس حقيقي لأزمة وخيبة دولة الاستقلال التي نشأت من خطيئة تاريخية كبرى وظلت بلا شرعيتها تعتمل وتنخر في الجسد والضمير الوطنيين، فعلى ذلك مضى فيما سمي بالمصالحة الوطنية كقرار وإجراء فوقي مزين باستفتاء شعبي رام من خلاله صاحب السنتيمتر زيادة على قامة نابوليون بونابرات، البهرجة الدولية وهذا عبر نسبة المشاركة الواسعة التي ستعني شعبيته ولا يهتم لطبيعة أصواتها، كون ما ظل يهم الحكم الجزائري منذ الاستقلال، من الناخب في عمليات اقتراع هو مشاركته لا طبيعة صوته .
من هنا يتضح أن هزة الحراك الارتدادية الثورية على أرضية التاريخ كان حقا مركزها الحاضر ولكنها في الاطراف امتدت إلى كل الاسئلة العميقة المظلمة من تجربة السلطة في احتكار حقائق التاريخ، وإرادة إخفائها عن الشعب أحينا بلا حجج باعتبارها حقائق وفق منطق المنظومة والسلطة المفروضة، وأحيانا بحجج لا تستقيم مع منطق أو موضوعية تاريخية مثلما كُشف ذات مرة من أحد رجالات السلطة أن هاته الأخيرة زورت الانتخابات طيلة أعراس ديمقراطية الوجهة من أجل “المصلحة العليا للوطن”!
بشير عمري
كاتب صحفي جزائري