وجهٌ قبيح آخر من وجوه « الجزائر الجديدة »

0
1460
Mohamed Hadji

 لا يُغطّي محمد شرفي أنفَه بكُرةٍ حمراء، لكنّه يؤدّي دور المهرِّج ببراعة منقطعة النظير. ثمّةَ موهبةٌ تتجاوزُ الابتسامةَ البلهاء والقدرةَ على إلقاء النكات (التي لا تُضحِك أحداً في حالته).جرت تزكيةُ شرفي (مواليد 1946) رئيساً لما يُسمّى « السلطة الوطنية المستقلّة لمراقبة الانتخابات » في زمنٍ فاصلٍ بين الجزائر القديمة والجزائر الجديدة (منتصف سبتمبر/ أيلول 2019). غير أنَّ الطريقة استعادت تقليداً قديماً يكتفي فيه « المنتخِبون » بتزكية مَن تختاره السلطة، وبالإجماع. ولا شكَّ أنَّ ذلك أعطى فكرةً مسبقةً عن التقاليد المستقبَلية.

في حالة وزير العدل السابق، كان المشهدُ أكثر فجاجة: يطلُب عضوٌ مِن سلطة مراقبة الانتخابات يرأس جلسةَ « التصويت » مِن بقية الأعضاء إن كانَ ثمّة بينهم مَن يرغب في الترشُّح للمنصب، فيلوذ الجميع بالصمت. يُعيد طلبه مجدَّداً فلا يجدُ جواباً غير الجواب الأوّل. حينها، يُعلِن عن الذهاب إلى خيار « التزكية برفع الأيدي »، فيرفعُ الجميعُ أيديهم قبل أن يذكُر اسمَ المترشِّح.لن ينتهي المشهدُ قبل أن يبلغ ذروة عبثيته: يُعلِّقُ رئيسُ الجلسة بأنّه لم يُعلِن بعدُ اسمَ المترشِّح اليتيم، طالباً من زملائه التريُّث في رفع الأيدي، فيخفضُ الأعضاء – وهُم قرابة خمسين رجُلاً وامرأةً مِن القضاة والقانونيّين والناشطين في المجتمع المدني – أيديهِم، بينما ترتفع أصواتهم بالضحك.مِن المرجَّح أنَّ هؤلاء القضاة والقانونيّين والناشطين لم يكونوا ليرفعوا أيديهم لتزكية مرشَّح لا يعرفون مَن يكون.

غيرَ أنَّ الإخراجَ السيّء للجلسة الصُّورية كشف، ليس فقط بأنَّ التصويتَ إجراءٌ شكلي لا أكثر، بل بأنَّه ليس بين الذين سيتولّون الإشراف على « انتخاب » رئيسٍ للبلاد بعد قرابة شهرَين مَن بإمكانه أن يقول لا لمن تختاره السلطة، حتى وإن كانت « لا » رمزية.إذن، ارتفعت الأيدي مُجدَّداً وأُعلِن شرفي رئيساً لـ »السُّلطة الوطنية المستقلّة للانتخابات » لفترةٍ تستمرُّ ثلاث سنوات. وكان ذلك مؤشِّراً آخر إلى عودة وجوه منظومة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة إلى الواجهة، بينما يُطالِب الحَراك الشعبي، الذي كان لا يزال في عامه الأوّل، برحيلها جميعاً.عمل شرفي مستشاراً في رئاسة الجمهورية لفترتَين منذ 1999 (السنة التي وصل فيها بوتفليقة إلى الحُكم)، قبل أن يُصبح وزيراً للعدل لمرّتَين في 2002 و2012. غير أنَّ ثمّة مَن رأى في تعيينه مؤشّراً إيجابياً؛ بوصفه أحد « أبطال » مواجهة فساد منظومة بوتفليقة، وأحد ضحاياها أيضاً.وهذه المظلوميةُ، التي سيتبنّاها أيضاً عبد المجيد تبّون؛ الوزير الأوُّل في فترة بوتفليقة ورئيسُ الجمهورية حالياً، تبدو مُفيدةً إلى حدٍّ ما في محاولة التبرّؤ مِن المنظومة السابقة. غير أنَّها تُوحي، مِن جهةٍ أُخرى، إلى اعتماد السُّلطة عليها في توزيع المناصِب السياسية، مِن خلال التعيين، بوصفها (المناصب) شكلاً مِن أشكال التعويض.

في حالة شرفي، يضرب ذلك، بلا شكٍّ، الاستقلالية التي يُفتَرض أنّها مبدأ أساسي في هيئته.سريعاً، سينخرط محمّد شرفي، الذي ظلَّ بعيداً عن الأضواء طيلة تولّيه مسؤولياتٍ في فترات متفرّقة سابقة، في لعبة الظهور الإعلامي، فيُصبِح أحد أكثر وجوه « الجزائر الجديد » ظهوراً على وسائل الإعلام. وخلال ثلاث مناسباتٍ انتخابية في أقلّ من سنتَين، اتّضَح أنَّ الرجُل، الذي لم نكُن نعرف عنه الكثير مِن قبل، يتميَّز بخطاب سياسي ضحل، ومقدرة شبه منعدمة على الإقناع، وخلفية معرفية متواضعة بشكلٍ يُثير الحيرة، بالنظر إلى مستواه التعليمي وسيرته الذاتية الحافلة بالمسؤوليات.يمنحُه هذا الظهور الإعلامي، سواء عبر استضافته في برامج تلفزيونية وإذاعية، أو عبر نقل مؤتمراته الصحافية وتصريحاته الغريبة الكثيرة، دور المهرِّج الذي لا يحتاجُ إلى أنف أحمر وملابس مزركشة وواسعة وحركات بهلوانية.

في أحد تصريحاته تلك، وكان ذلك قبيل أيام من الانتخابات الرئاسية في الثاني عشر من ديسمبر/ كانون الأوّل 2019، تحدّث ببجاحة عجيبة عن قدرة سلطته على تنظيم انتخاباتٍ مثل انتخابات إيطاليا وألمانيا، مضيفاً وهو يُحرّك يده اليُسرى بأنَّ ذلك سيضع الجزائر في « مصفّ » (مصاف) البلدان الديمقراطية الكبرى.لا يُمكن أخذُ كلامٍ من هذا القبيل على محمل الجدّ في بلدٍ فُرضت فيه الانتخابات الرئاسية عنوةً على قطاعٍ كبير من الجزائريّين الذين واصل كثيرٌ منهم الخروج إلى الشارع للمطالبة بمسار ديمقراطي حقيقي، بينما واجَهتهم السلطةُ بالاعتقالات وأبواقُها بالتخوين. غير أنَّ بإمكاننا التعليقُ على كلام أورده في معرضٍ آخر اعتبَر فيه أنَّ أكبر تحدٍّ لهيئته يتمثّل في تحقيق أعلى نسبة مشاركة في الانتخابات.يُثير هذا التصريح تساؤلاتٍ عن طبيعة « السلطة الوطنية المستقلّة لمراقبة الانتخابات »، وعن حقيقة دورها الذي يُفترَض أن تقوم به، بمعنى آخر: هل هي هيئةٌ تقنيةٌ مستقلّة يقف هدفُها عند الإشراف على العملية الانتخابية وضمان سلامتها ونزاهتها، أم هي تنظيمٌ سياسي موالٍ للسلطة هدفه حشد المنتخِبين لا غير؟ بالتأكيد، لو كان الاحتمال الأوّل هو الإجابة الصحيحة، لرأينا شرفي يُلحُّ على أنَّ أكبر تحدّ لهيئته هو تنظيم انتخابات نزيهة وديمقراطية.وهذا التوجُّه، الذي يخرجُ بالهيئة عن دورها الأساسي، سنلمسُه أكثر في الشعارٍ الغريب الذي رفعَته خلال الانتخابات التشريعية في الثاني عشر من يونيو/ حزيران الجاري؛ فعبارةُ « فجرُ التغيير »، التي ظهرت في خلفية المؤتمرات الصحافية التي نظّمها شرفي، هي صياغةٌ أُخرى لشعارات السلطة التي حاولت التسويق للانتخابات المسبَقة على أنّها خطوةٌ في مسار التغيير.

المؤكَّد أنَّ ليس مِن بين مهام « السلطة الوطنية المستقلّة لمراقبة الانتخابات » استشرافُ مستقبَل المشهد السياسي، والتنبُّؤ بأنَّ الانتخابات ستُمثِّل « فجراً للتغيير »، بل الاكتفاء بمراقبتها، سواءٌ أدّت إلى التغيير أو إلى تكريس الوضع القائم.وعلى نهج السلطة، سيَعتبر شرفي الانتقادات التي وجّهتها أحزابٌ سياسية لنتائج الانتخابات التشريعية « دعوةً مبطَّنة إلى زرع الفوضى والتشكيك »، وهو استنساخٌ للخطاب الرسمي الذي بات يرى في أية انتقاداتٍ للسلطة، سواءٌ اتّخذت شكل احتجاجاتٍ أو إضرابات أو حتى كتابات فيسبوكية، ضرباً من التآمُر على الدولة ومؤسَّساتها.غير أنَّ أكثر مواقف محمد شرفي تهريجاً خلال الانتخابات الأخيرة هي ظهوره في حوارٍ على التلفزيون العمومي مع شاشةٍ تَظهَر عليها صورةٌ رديئة لخارطةٍ العالَم اعتبرها « آخر ما وصلت إليه « السلطة الوطنية لمراقبة الانتخابات ».

يُوحي ذلك أنَّ الأمرَ يتعلَّق بخدمةٍ تتيحُ رصد جميع البيانات المتعلّقة بالانتخابات في جميع مكاتب الاقتراع حول العالَم، لحظةً بلحظة، لكنَّ شرفي سيكسر أفق توقُّعاتنا حين نفهم مِن شرحه أنَّ الأمرَ لا يتجاوز معرفةَ أوقات افتتاح المكاتب وإغلاقها عبر العالَم، وهي مسألةٌ تكفي ورقةٌ وقلمٌ لمتابعتها، ولم تكُن تتطلّبُ كلَّ هذا التطوُّر التكنلوجي الذي لا يُستبعَد أنّه التهمَ ميزانية كبيرة ليثير السخرية ويُقدِّم صورةً بائسةً أُخرى عن البلاد ومستوى تفكير مسؤوليه.ورغم « التطوُّر التكنولوجي » الرهيب الذي وصلت إليه، ستضطرُّ « السلطة الوطنية لمراقبة الانتخابات » للانتظار أياماً قبل إعلان نتائج الانتخابات التشريعية. وخلال الندوة الصحافية لإعلان النتائج، والتي تأخّرت عن موعدها هي الأُخرى، وضع محمد شرفي – الذي ظلَّ حريصاً على الخلط بين نسبة المشاركة وما سمّاه معدَّل المشاركة – ثقافة رجُل الدولة جانباً، مفضِّلاً الحديث بأسلوب رجُل يضع رِجلاً على رِجل في مقهىً شعبي ويرتشف فنجان قهوة. بلُغةٍ فجّة، رفض إجابة صحافيّ سأله عن نسبة المشاركة، محيلاً إياه إلى صحافيّ آخر قال إنه أعطى نسبة المشارَكة، كأنَّ الإعلان عن نسبة المشاركةِ في الانتخابات مِن مهام الصحافي وليست ضمن مهام رئيس « اللجنة الوطنية المستقلّة لمراقبة الانتخابات ».

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici