الجزائر: تباشير وعي التمرد الاسلاموي الداخلي

0
1815


https://www.raialyoum.com/

بشير عمري

في خلال تدخله على مواقع التواصل الاجتماعي للرد على من انتقد تفسيراته وتبريراته للهزيمة النكراء التي تكبدها حزبه في الانتخابات البرلمانية التي جرت مؤخرا بالجزائر، والتي رأى فيه (التدخل) الجميع كلاما قديما وخطابا إسلاميا باليا يعود لعقود خلت من حياة الحركة الإسلامية أين اشتبك خطاب الدعوة بالسياسة، اعتبر عبد الله جاب رئيس حزب جبهة العدالة والتنمية أن مرد ذلك النقد والانتقاد قلة علم وتأثر بالخطب العلماني السائد من هؤلاء الإسلاميين، وهو ما استرعى قراءة موجزة لما يحمله من خطورة على صعيد التصور والاخفاق على مستوى التدبير في مسار الاسلامويين الجزائريين الذين لا يفتؤون من موسم سياسي إلى موسم آخر وعرس سياسي إلى عرس جديد، يخسرون من وهجهم وحضورهم الشعبي وقواعدهم الجماهيرية التي تميزوا بها فيما عرف سنوات الصحوة الأولى أو في فترة المد الاسلاموي الذي واكب عصر الانفتاح بعد سقوط الأنظمة الحديدية في عالم بأسره.

في البداية تتوجب الإشارة إلى أن مسألة العلم التي أشار إليها عبد الله جاب الله كسبب لانبهار القواعد الإسلامية بالخطاب العلماني الذي اتسع في مدياته النقدية للسلطة السياسية وبها يتطور داخل منظومة انتاج وتجديد الخطاب المعارض، ما مكنه من قوة ذاتية استطاع بها أن يفكك آليات الانوجاد الأول لهاته السلطة ويقترح موضوعيا أدوات اقتلاعها على مساري الوعي والممارسة، يعد في حد ذاته إدانة لهذا الخطاب لا بل قد يمتد لما أسماه بالعلم، وهو يقصد العلوم الشرعية التي باتت كلها اليوم محل استرابة لدى الإسلاميين قبل غيرهم وذلك على ضوء تنامي الوعي بالواقع في مقابل انحباس النص في أدبار العصور ما غرب وضبب ليس فقط السياسة الاسلاموية بل المشروع الذي تحمله ككل في أعين الإسلاميين قبل الناس أجمعين.

ولعل من مظاهر هذا الوعي الداخلي المتجاوز لخطاب القيادة، هو ذلك التمرد الذي حصل على قرارات تلكم القيادات في المشاركة في الاستحقاق الانتخابي والعمل على تعبئة القواعد النضالية الشعبية في هذا الاتجاه، حيث انتقد جاب الله واحجم الاسلاميون الآخرون عن ذلك مخافة التعرية أمام التيارات الأخرى، انتقد عدم انصياع العديد من القيادات الفرعية ومسئولي الصفوف الخلفية للحركة لأوامر القيادة العليا بهذا الشأن ومقاطعتهم للانتخابات ما اعتبره رفضا للسمع والطاعة العنصران المهمان في هرمية العمل الإسلامي.

وهنا تتجلى بوضوح معالم التطور الذي حصل في وعي الكثير من الناشطين في صفوف الحركات الإسلامية، بل ويمكن اعتبار ثورة الحراك الشعبي الذي انفجر سيله في22 فبراير 2019 كانت أكبر مفجر لهذا الوعي الوطني وخصوصية القضية الوطنية داخل خطاب وأجندة الإسلاميين، فحدث تلقائيا التفريق بين ما هو دعوي يربط أبناء التيار برمته وداخل النسق الحركي الفكري وما هو سياسي يستدعي استحضار الواقع والقراءة الواعية على مستويي الفرد والجماعة قبل اتخاذ الموقف الأنسب من الطرفين أي (الفرد والجماعة).

وهكذا حصل التمرد باستحضار أصحابه للقراءة السياسية الذاتية للواقع الوطني المتحررة من سلطان الجماعة وخطابها الفوقي الذي يتحكم فيه ظل هيمنة القيادة الكاريزماتية الدعوية للشيخ الزعيم، فلم يعد ذلك الإذعان والانقياد الأعمى الذي كانت تمضي عليه الجحافل والصفوف في ما سلف من عقود العمى السياسي الذي ضرب هذا التيار (الاسلاموي) وهو يتصدر المشهد السياسي للبلاد عبر قيادات تحتكر القرار (السياسي) وآليات فهم النص (الديني).

وفي صورة يتم تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي لشخصيتين سياسيتين معتقلتين حاليا بسبب رفضهما لخارطة الطريق التي تمضي عليها السلطة بقوة لإعادة بناء من هدمته ثورة الحراك من رميم نظام بال متهالك، وهما إبراهيم غربي من جبهة الإنقاذ الإسلامية وفتحي غراس منسق حزب الحركة الديمقراطية الاجتماعية (الحزب الشيوعي الجزائري سابقا) يتضح بأن ثورة الحراك الشعبي الجزائري قد أسست لوعي جديد اخترق منظومات الفصل الأيديولوجي المقيت الذي ميز عمل الجيل التعددي السياسي والثقافي الأول ونبهت إلى أن أزمة الجزائر لا تكمن في التعدد والتنوع كما يرسم في المخابر ويسوق على المنابر المشبوهة، بل إنه ليكمن أساسا في حواجز التماس والتلاقي بين سيول ذلك التنوع بما يفيض ويجرف القديم.

خلاصة القول هنا، هي أن بشارة التمرد الاسلاموي الداخلي على طغيان الكاريزما والقرار الانفرادي بدعوى أنه نابع من إرادة جماعية يمثلها مجلس الشورى (الجاثم تحت ظل كاريزما المشيخة) هي اليوم مدعاة تفاؤل بانبلاج عصر جديد للسياسة يحمله جيل يعيد قراءة الإسلام السياسي من منظور واقع (وطني) والسياسة من منظور براغماتي تاريخي بعيدا من تلافيف الخطاب الميتافزيقي التبشيري بنصر هلامي ينزل من السماء ولا يصعد من الأرض باعتبار أن النزول إلى الأرض كان لصناعة النصر من تدافع زمني تاريخي وإلا لفرغ مبدأ الاستخلاف الرباني من كل معانيه وانفك عن كل دواعيه، في انتظر أن تستفيق وتتمرد ما تبقى من الصفوف اللاحقة في الحركات الاسلاموية الأخرى التي باتت أكثر من أي وقت مضى في حاجة لجرعة الوطنية وترياق النهج الديمقراطي ليتحرك هيكلها التنظيمي وتدب فيه روح العصر بهذا الوعي الجديد المجدد المنفتح بجد وجدية على القضية “الوطنية” قبل قضية “الأمة” أي الخلافة ووهم شاكلتها الأولى المحمول في تصور خاطئ من هؤلاء للتاريخ الذي هو صناعة تنجز وليس بضاعة تسترد .

كاتب صحفي جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici