“البنابية” أو مسعى استحضار الإسلام في مأدبة التاريخ

0
811

https://www.raialyoum.com/

بشير عمري

عادة ما يشتكى الشباب المنخرط في في الثقافة الإسلامية بشقيها الحركي التنظيمي والمعرفي الأيديولوجي بصعوبة تناول فكر مالك بن نبي لفرط اميزه عن نسق المسرودات الإسلامية، وفيما فسر ذلك بعضهم بحضور الروح التقنية في نموذج التفكير “البنانبي” وهو ما لا يمنح المتلقي المعتاد على مسارب معروفة ومعلومة بوصفها خصيصة الحقل الاسلامي متضمنة لغته ونموذجه الدلاليين، رأي فريق آخر أن الصعبة تكمن في الخلفية اللغوية التي تناول بها هذا المفكر الإسلام وهو الذي كتب جل مؤلفاته بالفرنسية لتعذر قيام ذلك بالعربية كونه حرم من تعلمها كما حرم الشعب الجزائري بأسره من ثقافته طيلة عهود وعقود من الاستعمار الفرنسي بشرسة آلته للفرنسة التي قاربت القرن ونصف من الزمن.

والحقيقة أنه إذا كان يستلزم الإقرار بشيء من هذا وذاك في تفسير صعوبة التعامل مع فكر وتراث مالك بن نبي العميق والدقيق، فإن مكمن الصعوبة الحقيقي ليتجلى أساسا في كون هذا المفكر لا يقع محتبِسا أو محتبَسا في مفترق سُبل الزمان والمكان، لا يدري من أي الزوايا يبتدئ وينتهي في قراءة المشهد العام للعالم.

فبحكم البيئة الاستعمارية التي عاشها متألما ومتأملا، ترسخ لدى مالك بن نبي في باكر عمره المعرفي الوعي بالتاريخ كحركة تفسير وليسر فقط تفسير حركة، وهذا هو المشكل الكبير الذي تتساقط في أتونه الرؤى والتجارب الإسلامية والاسلاموية على حد سواء، أي الرؤية الفاعلة للتاريخ.

الخطاب الفكري الإسلامي وما يستتبعه من صدى اسلاموي بشقيه الاجتهادي السلمي والجهادي العنفي لا يمضي مع حركة التاريخ بلا سعيه منصب على المضي عليها، دوسها وتجاوزها بوصفها انحراف عن الحقيقة مصدرا وصناعة، مسألة الحقيقة من هذا المنظور الخاطئ تبرز في كونها ناجزا وليس إنجازا خاضعا لإرادة البشر في حقل  ما أسماه القرآن الكريم ذاته بالتدافع.

فمالك بن نبي يمضي وحيدا أو يكاد، من بين كل الاتجاهات التي زعمت النهل من عيون الإسلام، في الاتجاه الوحيد المتاح بمنطق التاريخ وهو المضي قدما مع المسير الانساني أي التقدم، مصاحبة لكل الارادات الإنسانية فيما أسماه بالسلسلة الحضارية التي لا تنفصم ولا ينفرط عقدها مع الإقرار بأنها وبحكم بشريتها تعتريها مشكل ما جعله يضع كل كتبه بعنوان “مشكلات الحضارة”.

وعندما كان مالك بن نبي يتناول مشكلات الحضارة، لم يطرح الأمر من زاوية رؤية إسلامية جاهزة ناجزة، بل كان ينظر لمشكلات الإسلام كجزء من مكون ومكنون الحضارة سواء في حقبه التأسيسية التي تلت فترة النبوة أو الفترات التي أسهمت في انكسار عالم الإسلام ودخوله سراديب الغطيط التام والعام لأزيد من خمسة قرون متتالية نالته فيها مقالع الغزو ثم مدافع الاستعمار كنتاج لتلك القرون الخمس من التحديث للعقل البشري في الغرب، هذا الاستعمار الذي خبره في التجربة وفي أسفار تكوينه ودقق في جيناته التاريخية عبر الغوص العقلاني بمجهر ثقافته الواسعة، جعل مالك بن نبي يدرك بأن مشكل المسلم ليس في إيمانه بقدر ما هو في جهله، والجهل هنا ليس تلك الصفة المتوقفة عن القدرة على القراءة أو الكتابة فليس أجهل اليوم من بين المسلم من نخب تقرأ وتكتب من غير فهم لواقعها خارج عن سياق الاقتياد المعرفي للآخر واستلاب واستسلام فاق شرعية الاستلهام من مقدرة هذا الآخر العلمية والمعرفية.

فمالك بن نبي استحضر عبقرية الصحابة في الأسئلة أو كا تراءت للبعض مع أنها عكست المشاكل الكبرى التي رآها في سلسلة التي الحضارة التي سبقتهم (الصحابة) والتي واكبتهم وتلك التي تلتهم بقرون تمتد إلى حاضرنا، في غير عزل ولا انعزال غير منطقي للمسلم عن التمشي الحضاري البشري، هذا التمشي الذي لا يقبل في تدافاعته تنزها ومثالية ظلت ديدن من يكتبون في وعن التاريخ الإسلامي، السياسي منه والعسكري والاجتماعي والثقافي، خشية أن يتلوث الوحي كمصدر متعال علوي بدنس التجربة التاريخية للإسلام، مع أن هذا المصدر (الوحي) اقد حمل في منطوقه ومتنه الضابط لسيرورة التاريخ قصص التدافع الإنساني بكل ما شابها من تلويث المدنس للمقدس، كما في خطيئة القتل الأولى بين ابني آدم، وقبلها عصيان أمر الذات العليا من قبل هذا الانسان الذي بالكاد شُرف بتكريم غير مسبوق من بين الخلائق، وبهذا تظل الخطيئة أداة فارقة في التجلي البشري في التاريخ عبر التجربة الحضارية.

فالتجربة التاريخية بحسبانها فضاء تمثل وتمثيل الإسلام وإشهاده بالمستطاع البشري وليس الاستعصامي او الاستصنامي، كانت شغل مالك بن نبي وبرز ذلك في طبيعة كتبه التي تتلاقى وتتلاقح في مضمونها حكم البشر على اعتبار أن الحكمة تظلها ضالة المؤمن و يظل أحوج ما يكون هو إليها أنى وجدها، والظرف هنا للزمان والمكان والانسان ولا يعدم التاريخ حكماء لم يتصلوا بالدائرة الإسلامية عقيدة وحضارة ولكن حكمهم فاضت على المساحات المظلمة في تاريخ هاته البشرية، فليست الدائرة الإسلامية وحدها حقل انتاج الحكمة لكون هاته الأخير وفق المنطوق الإسلامي متعلقة بمصدرها الغيبي فهي بذاتها غيب يؤتيها مالكها من يشاء !

ودائما أذكر حادثة وقعت لي مع صديق لي رحمه الله من التيار السلفي يوم اعرته كتاب مالك بن نبي الشهير “شروط النهضة” لأفاجأ به يعيده إلي في اليوم الموالي والسبب هو أن مالك بن نبي تناول فيه “الموسيقى الهندية” مع أنه ما تناولها كعنصر في سياق تحليلي إلا باعتبارها جرس شرقي يحرك فيه روحه الشرقية كلما دقت في أذانه، وهو يتناول هوية الدوائر الحضارية وفاعليتها من خلال أدواتها وأشيائها في التاريخ على النطاقات المركبة النفسية والعقلية الفردية والجماعية، فصديقي السلفي المرحوم الذي قاطع الكتاب بسبب جزئية الموسيقى التي قطع الفقيه المسلم بحرمتها على امتداد الزمان والمكان هو تعبير عن القطيعة غير المنطقية للمسلم مع التاريخ على صعيد الفهم والتجربة وهو بالتالي ما يفسر معضلة وقوعه رهينة لطغوى الاسترابة من هاته التجربة كأساس لصناعة التاريخ، والنتيجة هزائم متتالية المسلم يحيلها كلها، في متونه التبريرية التي لا يبدع في سواها، إلى الآخر الغيبي (الشيطان) والشهودي (الاستعمار) في حين يكتب بن نبي عن المسلم في (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة) و (واقع المسلم في عالم الاقتصاد) يغيب فيهما هذا المسلم و(دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين) دور لا يؤديه ببساطة لأنه يفهم هذا التاريخ، ومذكراته الشهيرة (مذكرات شاهد للقرن) وغيرها من الكتب التي يُرى من نصوصها الاسلام يُدعى ويُستدعى إلى مائدة التاريخ وليس العكس.

كاتب  جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici