بين ثورة الوعي العمومي وخيانة العقل النخبي

0
1377


https://www.almothaqaf.com/a/opinions
بشير عمري

في منشور له على صفحته بالفيسبوك أشاد الحقوقي والمعارض السياسي الجزائري الشهير الدكتور صلاح الدين سيدهم بالشباب الجزائري مفجر ثورة 22 فيفري من أجيل تحقيق التغيير المنشود، منتقدا في الوقت نفسه ما وصفه بالخيانة الجديدة للنخب لهاته الثورة الهادفة لتحرير العقل الوطني.

ما يسترعي الانتباه والتدقيق في محتوى هذا المنشور، هو وصف الدكتور صلاح الدين لموقف النخب بالخيانة، توصيف نوعي لتطور خطير في مسار عمل النخب الجزائرية خارج الإطار النظري الفكرالذي كشفت المبادرة الثورية للشباب أنه لا يعدو كونه استئناس سلبي بأفكار التاريخ البشري ومحاولة قراءة المجتمع من خلالها في وقت تظل الحاجة الماسة لهذا المجتمع الغريق في إشكالاته هي كيفية الانتقال من التكديس إلى البناء كما كان يلح عليه المفكر الراحل مالك بن نبي، أي من الكلام إلى الحركة.

فالخيانة هنا هي تامة وكاملة الأوصاف وقد تحققت بمجرد عزوف تلك النخب عن الانخراط في الحركة التغييرية الشبانية الرامية لتحرير الإرادة الوطنية، دونما حاجة لنقد من وقف ضدها وجاهر بمعاداتها بذريعة أو بأخرى، بمبرر تخوف إيديولوجي (وجود الإسلاميين) أو بتعال عن الشارع بوصفه صاحب المبادرة، في حين ترى النخب العائمة في سكرتها النرجسية النظرية واجترار تجارب الغير الثورية، أن أي تثوير أو أسلوب تغيير يجب أن ينشأ أو ينبثق منها وإلا وصفته ونعتته بالغوغاء والعشواء الذي يهدم ولا يبني !

من هنا وُجدنا أمام معادلة صعبة في التجاذب حول الوعي كأسس لتغيير بين الممارسة والدراسة، بين التفعيل والتعليل، إذ في الوقت الذي تولى مهمة تفعيل الوعي بضرورة إحقاق التغيير وتحقيقه في الواقع من طرف العقل العمومي (الشارع) سارع العقل الخاص (النخبي) إلى رفض ذلك بداعي الأحقية التاريخية لقيادة حركة المجتمع، بل ذهب قسم من النخب تلك إلى الانخراط في عملية الالتفاف على الحراك.

هو إذا شرخ جديد يضاف إلى جملة الشروخ الثنائية التي حدثت مرارا وتكرارا في المشهد الوطني الجزائري منذ الانقسامات الأولى التي عرفها مجتمع ثورة التحرير بسياسييه وعسكرييه بمناضليه ومجاهديه في الداخل والخارج.

لكن واضح أن التكسير الممنهج والدائم للمجتمع السياسي التعددي الأول هو ما أدى إلى هاته الظاهرة الجديدة (الصراع على قيادة التغيير بين الوعي العمومي والوعي النخبي) وقيادة الشارع لمبادرة التغيير الثوري السلمي، في مقابل رفض النخب لذلك والاصطفاف إلى جانب القوى المعادية للمبادة الثورية.

ثلاثة عقود كاملة من كتم لأنفاس المعارضة الفعلية والحقيقية، وتفجير الأحزاب الحاملة لأفكار وبرامج عملية علمية للتغيير، وإقصاء الصوت المعارض من وسائل الاعلام والمؤسسات النيابية الشعبية عبر تزوير الانتخابات وفرض منطق التزوير وتسويقه على أساس كونه حاجة وطنية تكفلت بها حركات سياسية مشاركة في الحكم تشبهت بسلوكها إلى حد بعيد الحركات الاندماجية التي سبقت ثورة التحرير الوطني قبل أن يقضي على صوتها المد الثوري التحرري الوطني الجارف، ويتبرأ منها سادتها وقادتها ويلتحقوا بالثورة!

 ثلاثة عقود من تدمير لمسار انبساط التعددية الحقيقية وعرقلة نموها وتطورها الطبيعي، كان من مر ثمارها انفلاق الوعي الوطني بين عقل عمومي ظهر بقوة الأشياء ليملأ الفراغ الرهيب الذي خلفه غياب الصوت المعارض جدي والموقف المتخاذل والمتساهل للنخب، وبين عقل نخبي لا يرى غيره حاملا للحقيقة الوطنية ماضيا وحاضرا ومستقبلا حتى لو سكت دهرا واختبأ في حقيبته أو محفظة أروقه ودفاتره الكبيرة.

من هنا يجب معاودة طرح الظاهرة الوطنية في الجزائر على طاولة التشريح، لمعرفة بِنية العقل الوطني وخصائصها وما اعتراها من جديد الانقسامات، وكيف تشكلت  مجددا وفق الإشكالات الكبرى المصطنع منها والتلقائي، في ظل عقود ثلاثة من الاقتياد التام للإرادة الوطنية، تزويرا في السياسة وتدميرا في الفكر وتبذيرا في الاقتصاد، لأن أي مسعى للتغير والتثوير لا يمر عبر التشريح التام لمعرفة الملابسات المصاحبة لواقع العمل الوطني سيكون مآله الفشل والعودة إلى أسئلة المربع الصفري الأول.

بشير عمري

كاتب سياسي  جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici