عبرت الصورة التي تناقلتها شاشات العالم لنجل معمر القذافي سيف الإسلام وهو يقدم أرواق ترشحه لرئاسة ليبيا، عن عمق مأساة الوعي العربي، وانتفاء، قبل الثورة فكرة ومسارا، منطق الدولة بوصفها محور الوجود السياسي والإنساني للمجتمع والوطن، مثلما عبرت عن ألعوبية الانسان العربي في معترك البحث عن ذاته في صحاري تاريخه وتاريخ صحاريه البالية الخالية إلا من عدمية المنطق وتراجيديا المعنى المستمرة.
ما الذي يمكن قراءته من سيميولوجية الصورة، حيث يرتدي سيف الإسلام القذافي ذات لباس والده في أول خطاب مناهض لحركة شعبه التحررية من طغواه وفساد عائلته وحاشيته وقبيلته، يوم وصف الشباب الثائر بالجرذان ومتسائلا في تهكم “من أنتم؟”
رمزية الصورة تحمل في طواياها ليس فقط دلالات الردة عما جرى وانجرَّ عن ارادة التحرر من قهر الواحدية والاستبداد الأسري، وطعنا في مسار فك الاسر المقيت الذي ضرب على العقل الليبي ومعالم حضور الذات في الجغرافيا والتاريخ، كما قال الفيلسوف الليبي نجيب الحصادي “النظام السابق حول العبث بالهوية الوطنية، فنحن أحيانا أفارقة وأحيانا نحن مسلمين وأحيانا.. كل مرة تخلق لنا هوية سياسية جديدة، لكن هذا لم يؤثر على المستوي الشعبي، بيد أن أهول ما فعله النظام السابق، هو أنه عبث بالشخصية الوطنية، الشخصية الليبية، وذلك عبر العبث بالمنظومة القيمية السائدة بطريقة منهجية أساسا، وذلك من خلال محاولة مقصودة وممنهجة لإضعاف الروح المهنية، وهنا يتداعى إلي الذهن العديد من القيم، فالروح المهنية تحتاج إلى عناصر خاصة يفتقدها المجتمع الليبي، مثلا كنت أنا أستاذا في جامعة بنغازي ومديرها طالب! وزير الاعلام يلقي بنفسه نشرة الأخبار!” حالة من تشريد دائم للوعي الوجودي للأمة للوطن بأكمله، لكن أخطر ما في الردة المحمولة في دلالات صورة ابن القذافي بلباس والده في خاطب رفض وتحدي إرادة الشعب الثائرة عليه وعلى اسرته ونظامه، هو الطعن في تضحيات ودماء من قدموا أنفسهم فداء لتحرير الأرض والضمير الليبيين!
من هنا يبرز الخطر الداهم الذي يتهدد الوعي العربي الجديد المعبر عن وميضه من خلال ربيع الامة التاريخي الذي بالكاد بلغ عام طفولته العاشر، ومع ذلك بدأت مطاعن الردة وفرض إرادة الاجندة الدولية الاستعمارية الجديدة عليه كتحد كبير، لم يجد مع الأسف، حتى هاته الساعة، موانع ومقامع واقية من نخب هذا الربيع ونشطائه الحقيقيين، لسبب بسيط وهو أن حركة الربيع هاته عجزت عن أن تخلق لنفسها بنية ما فوق مطلبية، تتصل بوعي اللحظة العميق المتجاوز لقائمة المطالب السياسية إلى المعاني الفلسفية والحتمية للتغيير.
ظهور ابن القذافي بذلك الزي المستفز، هو عودة إرادة التوريث كإعلان عن الإفلاس الثوري، لأن قائمة المطالب التي اقتصر عليها بعض الجهد الحراكي في الربيع العربي عجزت عن أن تعبر عن راديكالية اللحظة بوصفها محطة جديدة في الادراك لمعنى الوجود الوطني خارج خطابات وخطط وسياجات التجربة القديمة للدولة والمجتمع المفروضين المرفوضين.
والغريب أن الكثيرين ما روأوا في الصورة تلك ما يستدعي الغرابة، لأن نزعة الصوت تغلب عند العربي نزعة الصورة، مثلما عبر عنه عبد الله القصيمي “العرب ظاهرة صوتية” فالعربي لا يقرأ، إن هو قرأ، في معاني الأشكال التي قد تحمل في منطق السياسة ورُكح مسارحها، من الدلالات ما لا يحمله أو يضمره خطاب، ويكتفي بمعاني الكلام المجرد المصفوف.
هي إذا غربة الثورة في صحاريها العربية وسط سكوت باعة الدم، وصيادي المصائر والضمائر، ممن اكتفوا بالسير على جثث من قدموا اروحهم واجسادهم فداء لحرية وتحرر من طاغوت جمع كل مآثر ومقابر سلاطين الزمان في ردحة قصره يلاعب بها الاشهاد ويداعب بها الأوغاد كيفما شاء، فعن أية ثورة وتحرير وتجديد يمكن للوطن والوطنيين الاحرار فيه أن يتكلموا، وهم يرون ما لم يكن ممكنا رؤيته حتى في أسوأ كوابيسهم، يوم كانت تدوس دبابات مليشيات القذافي شوارع المدن وتقصف مدافعها ساحاتها الكبرى في طرابلس، بنغازي ومصراتة؟
إن الاكتفاء بالتعبير السياسي عن حركة الربيع العربي وعدم رفعها إلى مستوى التاريخانية الكبرى، باعتبارها حركة إنسانية أوقدتها تجربة من العيش الشبه بشري والشبه انساني، لمجتمع له ماض في صناعة تاريخ وحضارة الانسان، وقد تفجر بحاضره وماضيه كبركان يحمل في كمياء حممه أدوية لأدواء ليست مقتصرة على رقعة العرب الجغرافية وحدها، بل ممتدة إلى حيث حسيس الإنسانية المكلومة المظلومة بالكاد يُسمع – إن الاكتفاء بذلك – لن يكون سوى افتداء من العقل العربي الجديد الرشيد بمستقبل أمته في معركة العصر الجديد لصراع الارادات والتموقع الحضاري.
Abbes Hamadene
POUR NE PAS OUBLIER LES CRIMES COMMIS PAR LE SYSTÈME CONTRE LE PEUPLE !
Les évènements d’octobre 88 constituent un repère dans notre mémoire...