بعد 30 عاما من الانقلاب: جريمة ضد العطاء

0
1554

PAR AW · PUBLIÉ JANVIER 11, 2022 · MIS À JOUR JANVIER 12, 2022

المِعطاء , 60 سنة, اطار في الخزينة العمومية (1985-1995), Algeria-Watch, 11 jabnvier 2022

طلبت مني أخت فاضلة أن أدلي بشهادتي على انقلاب ١١ جانفي ١٩٩٢ بحكم معايشتي لهذا الحدث المفصلي في تاريخ الجزائر ما بعد الاستقلال٠

هذه الأخت التي منذ عرفتها وهي تحمل تلك الصبغة الجزائرية العميقة,هي التي لا تسكن الجزائر و لكن الجزائر تسكنها ٠كما يحلو للجزائريين القول في أمثالهم الشعبية إنها بنت كي الذهب لا تحول وتزول٠

لولا خوفي من أن اختزل جهدها و عطاءها الدؤوب للقبتها بأيقونة الجزائر للعطاء٠

لقد طلبت مني أن أدلي بشهادة من نوع خاص ليست بشهادة معاينة وسرد لحيثيات إنما الأمر أعمق من هذا بكثير لان الحدث لا يختزل في لحظة وقوعه و لا في التسلسل الكرونولوجي لِتطوراته إنما هناك أبعاد أخرى تتجلى في مآلاته التاريخية٠

إنه حدث الانقلاب المشؤوم الذي قامت به الطغمة الحاكمة في الجزائر جانفي ١٩٩٢ على ارادة شعب في أول انتخابات حرة و ديمقراطية عرفتها الجزائر و التي لم تكن لها ثانية إلى يوم الناس هذا٠

كما سبق وأن أشرت سوف لن أسرد عليكم احداث الانقلاب بِمؤشراته القبلية وما ترتب عليها من بعد,

إنما سأغوص بكم في بعد من أبعاد مرحلة زمنية ثمينة عاشتها الجزائر كانت ستكون انبعاث حضاري للأمة الجزائرية ٠

إن اعتبرت نفسي من صُناعها أو من صِناعتها , فالأمر الأهم من كليهما هو تلك الوقفة التاريخية الجوانية لتلك الحقبة في نفسية الفرد الجزائري

لم اكن اعرف معنى للحرمان إلا من حيث أن المرء لا يأخذ أو لا يتحصل على ما هو حق له، فاكتشفت أن الحرمان من العطاء هو أقسى و أمر من الاول٠

انا من ابناء جيل الثمانينات ,الجيل الذهبي للجزائر الاستقلال كما يلقب , و أنا أفضل تسميته الجيل الجسر الذي كان عليه أن يصل بين جيل التحرير و الجيل الحالي الذي أتى من بعدنا و المؤسف أن هذا الجسر ( الجيل) تم تدميره٠

إبن الطبقة الكادحة، كانت معايشتي اليومية للعوز في الحقوق الاجتماعية من مسكن وملبس ومأكل وكذلك في الحقوق المدنية حيث الحريات التي كان يحدها أنواع كثيرة من الخوف ٠

ترعرعت في هذا المحيط الذي كنت اعتبره محيطا خارجيا اما محيطي الداخلي فكان في الحقيقة ذلك الحي، تلك العائلة الكبيرة المتمثلة في المجتمع حيث مشاعر الاخوة المفعمة بالحب و التكافل و التآزر يجعل من الفرد يحس انه ابن الحي والمجتمع الذي هو متواجد فيه٠ كان لذلك المجتمع(الحي) أب واحد وأم واحدة حيث الأبوين لا يفرقان بين أولادهم٠

كنا نتقاسم كل شيء ،من الافراح و الاحزان الى المأكل و المشرب و الملبس٠تربينا في بيئة سِمتها حب العطاء والتسابق فيه محموم كل فيما استطاع إلى ذلك سبيلا، إبتداءً من الكلمة الطيبة التي تخرج من الفم الى الدورو (الدرهم) الذي يُستخرج من الجيب٠

لما اشتد عودي ووعيت الأمور كباقي أبناء جيلي حيث تحصلنا على رصيد من التعليم و الوعي سمح لنا بتطوير إدراكنا للأمور وخاصة مما يتعلق بحب الوطن و كان حب العطاء قد تجذر فينا فبهذا اقترن لدينا حبين لشيئ واحد، حب الوطن وحب العطاء للوطن

هذا الحب الذي تجسد في الانجازات المتعددة المجالات التي برع و تألق فيها جيل الثمانينات ٠

فكانت الجامعات الجزائرية تُخَرج آلاف الطلبة سنويا ذو المستوى العالمي ،رياضتنا أبهرت العالم في مجمل التخصصات ٠كان لصِناعتنا إسم على المستوى الدولي هذا ما جعل للجزائر مكانة مرموقة في المحافل الدولية٠

كان هذا الجيل يستحق بجدارة رفع المشعل ليواصل مسيرة العطاء التي بدأها شهداءنا بتقديم الأنفس فداءً لتحرير الوطن و جاء دورنا في التعمير لما تركه التدمير (الفرنسي)

كانت تلك الانتخابات بمثابة العقد الأخلاقي السياسي الذي كان بموجبه استلام جيلنا تلك المرحلة متعهدا بالاستمرار في العطاء ،فجاء إلغاء هذه الانتخابات جناية أخلاقية في حق حب التضحية و العطاء ٠

لم اكن اشعر في تلك اللحظة غير إحساس بالحرمان من فرصة العطاء تلك، رغم ما واكب ذلك الانقلاب المشؤوم من مآسي في لحظته والأيام التي تلته و كنت أنا أحد ضحاياها ٠

و هذا الشعور المر والمؤلم لازال يسكنني، أصبح كالجرح الذي لم يندمل ،و شاءت الأقدار أن أُهَجر من هذا الوطن منذ أكثر من عقدين من الزمن وأحل في بلد أرى فيه تناوب الأجيال على خدمة وطنها ، فتراني أخاطب نفسي كالمجنون ، لماذا حُرمنا من العطاء وكان عطاءنا بدون مقابل٠

لما فهمت السياسة و أقصد السياسة بمفهوم أبي الأمٌي ،ليست سياسة المقررات الجامعية ،حيث قال لي ذات يوم من أيام المحنة تلك يا بُني :إن مشكلة الجزائر أبسط مما تتصورون و أصعب مما تستطيعون فقلت كيف يا أبتي

فقال:وضع الجزائر يشبه قصة أولئك الخمسة من الرهط الذين اقتسموا خمسة خبزات( أرغفة) فأخذ واحد منهم اربعة خبزات بدون مقابل و اقتسم الأربع الباقون الخبزة الواحدة المتبقية بمقابل٠

فمِن ذلك اليوم فهمت ان الصراع في وطني هو بين أهل العطاء بدون مقابل و بين أهل الأخذ بدون مقابل ٠

لما صرت أبا بدوري، وقد مر على تلك اللحظة النصف التالي من وجودي في هذه الحياة فقمت بجولة في عالمي الخاص الى تلك الجلسة مع الوالد رحمه الله و عاودت الاستماع إليه من موقعي كأب أنا كذلك ٠فإذا بي كأني أسمعه يقول:

إن الظلم و الاستبداد هو الذي لم يسمح لي أن أوفر لك أدنى مستلزمات الحياة الكريمة كالخبز الذي تمثلته في عبرتي تلك٠

هذا شعور عميق وأصيل لأب تنطلق رؤيته لهذه الحياة من مبدأ الحفاظ على وجوده و وجود من كان سبب في وجوده٠

هذه كانت حسرة أبي و جيله ممن طالت أعمارهم الى ما بعد الاستقلال ظنا منهم قد أُعتقوا إلى وجود الحرية و عليهم بالحفاظ على وجود البقاء٠

والحقيقة أن حريتهم سلمها العدو الفرنسي للغدار الجزائري فقلب الاستقلال إلى احتقلال ، وهذا الذي من شيمته الغدر أعادها مع أبنائهم فكان انقلاب جانفي١٩٩٢ بمثابة الاحتلال بالنسبة لي وجيلي لتطابق صور و معاملات النظام الانقلابي التي عايشناها حينها مع ما رُوي لنا أو اطلعنا عليه من التصرفات والممارسات الوحشية و الهمجية للعدو الفرنسي

انقلاب جانفي ١٩٩٢ كان لحظة كل لحظة ،لم نفقد من جرائه كل شيء وإنما افقدونا الشيء كله٠

كأننا تنازلنا على وجود من أجل وجود أخر أفضل سيأتي بعد الانتخابات فإذا بنا حُرمنا منه و بذلك فقدنا وجودنا القبلي فأصبحنا موجودون في اللاوجود٠

تمر عليا لحظات وكأن الزمن توقف في يوم الإعلان عن وقف المسار الانتخابي ،اتمثل جسدي يسير و روحي تخلفت عنه بعدما انفصلت منه ،أَتمثلهما يختصمان في منتصف الطريق٠

لماذا أنت تائه الى بلاد الغربة ،يقول الروح للجسد

حملتك و تحملت محنك والآن استرحت منك، يرد الجسد

أنا هنا باقي (في الجزائر) عسى أن أجد من يحملني لنحمي الجزائر، يرد عليه الروح

فلكم أرواحنا يا شبابنا(شباب اليوم) إنها من مَسحة شهدائنا سِمتها العطاء ٠

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici