عبد الحميد مهري أو المشروع الأخير للعقل الثوري بالجزائر

0
2569

https://www.raialyoum.com/
بشير عمري

عشر سنين مرت على فقدان السياسة في ضميرها الوطني بالجزائر لأحد أبرز مرافقي مساراتها وقائد من قواد نشطائها الأستاذ عبد الحميد مهري، الرجل الذي شكل باستثنائية نموذجه في الرؤية والتعامل مع أزمة مشروعية الحكم بشقيها التاريخي والسياسي، علامة فارقة في العقل الوطني بالجزائر، علامة تدعو دوما إلى مزيد من التأمل والتدبر في فكر الرجل عسى أن تتبلور للأجيال اللاحقة رؤى جديدة ليس حول مستقبل البلد السياسي والمؤسساتي فحسب بل أيضا حول الماضي، حيث يُستعسر دوما رصد السر الذي انبت عليه كل أزمات الاستقلال بفعل الصراع المرير حول حقيقة السلطة وسلطة الحقيقة التاريخية للبلد.

ما شدني شخصيا مرة في كلام الزعيم حسين آيت أحمد، وهو يتحدث عن لقاء سانت إيجيديو سنة 1995 ما أورده عن عبد الحميد بقوله “ولما دعيت إلى اللقاء استجبت دون تردد، ولكم كانت دهشتي كبيرة وأنا أرى عبد الحميد مهري يحضر اللقاء مع بقية الشخصيات التي عرفت بكونها معارضة أيديولوجيا وسياسيا وتاريخيا للنظام السياسي بالجزائر”.

دهشة الزعيم آيت أحمد نابعة في رأيينا، من معرفته المسبقة بشخص الراحل عبد المهري كونه من ساسة الانضباط “الوطني” الذين وإن امتلكوا القدرة على فهم السياق التاريخي للازمة الجزائرية خارج اكراهات الواقع الذي تسيطر عليه الجهات العنفية، إلا أنها التزمت دوما في حسابات اللعبة، بمبدأ تغليب الوطنية على السياسة لوعيها ربما بأن السياسة بسمتها التاريخية ومفهومها النظري كما العملي قد انزاحت عن الواقع ولم يعد بالتالي ثمة من بد غير مسايرة الأحداث وترك المهمة للتاريخ كي يصحح بتقلباته وتدافعاته من يمكن تصحيحه.

ولعل لحظة سانت ايجيدو مثلت في تقدير الراحل عبد الحميد مهري المحطة الرئيسة في تقلبات التاريخ الوطني بالجزائر، حيث لم تعد المبادرة السياسية حكرا على جماعة بعينها، أو زعيم بمفرده، بل لعقل وطني تنامى وتعالى في وعييه وصار قادرا على البت في مسألة الضمير والمصير الوطنيين!

هكذا تصور وشعور من أحد الإطارات السياسية العليا لمنظومة الحكم بالجزائر، لم تعد مجرد انشقاق عضوي عنها، بل انشقاق في الوعي الوطني وأولى مؤشرات انفلاق وانشقاق السياسة عن السلطة، بحسبانها (السياسة) حساب عملي تكتيكي مجرد والوطنية بوصفها شعورا متسام عن صمم تلكم الحسابات، وهو ما كان يحتاجه الوطن قبل كل الصراعات التي اندلعت فيما بعد ما عرف بفترة التعددية، أي أن يتم تفكيك البنيات المركبة المعقدة التي تكونت بفعل تراكمات التاريخ المتلبس من أقداس التضحيات وأنداس الحسابات في صراع الأحقيات والمظلوميات بين مختلف الجماعات الوطنية.

وهكذا كانت المعجزة السياسية في الجزائر أن يحقق ابن المنظومة اجماعا خارجها، أي لدى المعارضة، ويغدو محور متابعة وملاحظة من قبل الجهات التي كانت ترصد المشهد السياسي بالجزار وهو يغطس عاما بعد عام في وحل الهول وأزمة الدم، تحاول عبر تفكير حتى لا نقول فكر، للأستاذ عبد الحميد مهري فهم حقيقة المعضلة الجزائرية خارج ما تدفع به الالة الإخبارية والإعلامية العادية.

موقف الراحل مهري مما حدث بعد توقيف المسار الانتخابي، كشف عن ظاهرة قديمة كانت مشتعلة تحت رماد صراع الحكم في الجزائر بين جانحيه السياسي والعسكري، وهو ذلك الحضور المستريب للمثقف الثوري الذي لم يصل حد التأسيس كطرف في الصراع نظرا للخصوصية التي قامت على قواعدها القضية الوطنية، إلا أن حضوره وإن ظل محتشما فقد تبدى بدرجة أو بأخرى قبلا وبعدا، صوت المثقف الثوري كان حاضرا من خلال أسماء تظل مظلومة في المعرفة التاريخية والسياسية بالجزائر، لأن المؤسف في التاريخ الوطني هو أنه يُتناول كمادة حدثية ميتة حيث تختلط العاطفة الوطنية البطولية بموضوعات الأحداث تغيب مستخلصات التجربة الثورية التي وقف عليها العقل المحايد في الصراع، كتابات بشير بومعزة مثلا لا تقل في هذا الاطار قيمة عما كتبته عقول ثورية في أي من تجارب الثورة في القرن الفائت، وإن كان الرجل قد أساء لفكره ومواقفه في آخر عمره حين عاود الالتحاق بالسلطة.

لكن لسائل أن يسأل فيما تجلت الثورة في فكر الأستاذ عبد الحميد مهري؟ الرجل ظل موظفا سياسيا داخل المنظومة يتنقل فيما بين أجنحتها، التنفيذية، الحزبية والديبلوماسية، طيلة عقود ثلاث كان إبانها الصوت المعارض المنتفض يُطحن داخل الاقبية والاقضية بالبلد، هو تساؤل مشروع لكنه في الوقت ذاته يَنُم عن سوء فهم لطبيعة العمل السياسي بالجزائر حيث، كما أشرنا، تتلبس فيه كل أشياء التاريخ، ذلك لأن تجربة العمل السياسي للأستاذ مهري حافظت على السمة الفارقة بين السياسي (باعتباره كذلك) والعسكري، وأنهما مهما حصل بينهما اتفاق او افتراق يظلان مختلفين عضويا ووظيفيا، وحين دقت لحظة الفراق او الانفكاك بينهما لم تكن المعارضة بكل زخمها الشعبي وقتها، قادرة على أن تفجره بكل تلك القوة والعنفوان التي فجرها بها موقف الراحل عبد الحميد مهري وهو يرحل عن معسكر المنظومة بعد توقيف المسار الانتخابي سنة 1992 في حدث في رأيينا لا يقل قيمة عن أهم محطات تاريخ النضال الوطني الكبرى التي تُمعلم تاريخ الجزائر، كونه يمثل لحظة أول محاولة تحرير الإرادة السياسية داخل المنظومة بالجزائر.

وهذا ما يفسر حقيقة الاجماع الذي ناله عبد الحميد مهري داخل جسد المعارضة، رغم كونه طارئ عليها (المعارضة) التي مهما قيل عن قدمها وشراسة خطابها آنذاك بإزاء المنظومة إلا أنها عجزت عن أن تتوحد أو تتجسد في صوت “إجماعي” فمهري بفكرة وإرادة تحرير السياسي من هاجس الانقياد وسلطة الاقتياد التي عاشها طوال عقود الاستقلال الثلاثة، مثَّل المسار الصحيح والصادق حتى من نموذج المعارضة التي لم تمثل أكثر من النقيض العملي للمنظومة أي أنها سعت للسلطة فقط لتحل محل المنظومة وتعمل وقتها بنفس أليات الهيمنة وفرض الذات التي عملتها المنظومة عن نحو ثلاثة عقود من عمر الاستقلال الوطني بالجزائر.

كاتب  جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici