مقدمة
الأحداث الدامية التي كان مسرحها سجن سركاجي في 21 و22 و23 فبراير 1995 إثر « محاولة فرار » أو « تمرد »، بحسب الروايتين الرسميتين، خلّفت حسب القائمة غير الرسمية، أكثر من مائة قتيل وعشرات الجرحى، بأسلحة هجومية، من بين 1600 معتقل سياسي ونزلاء القانون عام، في هذا السجن الواقع في قلب الجزائر العاصمة وفي منطقة أمنية مشددة. هذه المذبحة، التي عمدت الرواية الرسمية على تقزيمها بل والتستر عليها بالكامل لولا افتضاح أمرها، وراحت تهوّن من شأنها وتنعتها بـ »الحدث »، قد أثارت العديد من التساؤلات، دون أن تقدّم لها الرواية الرسمية إجابات مرضية، سواء لعائلات الضحايا أو لمحاميهم، أو لمنظمات حقوق الإنسان غير الحكومية والرأي العام، المنشغلة بمخلفاتها وحيثياتها.
هذه المجزرة التي نفذت في قلب شهر رمضان الكريم، مثلها مثل مذبحة أكتوبر 88 وفاجعة المطار هواري بومدين، في أوت 1992، بينت طريقة الانقلابيين في السلطة، في تسيير عملياتها القمعية والتلاعب بحيثيتها وتضليل المواطنين والرأي العام الدولي، مستغلة وسائل الدولة وأجهزتها في تحقيق ذلك، لكن على الرغم من الجدار الحديدي المفروض على فاجعة سركاجي وتوظيف مرتزقة القلم والفكر وسماسرة السياسة، لم تفلح هذه الماكينة من إخفاء الجريمة، بفضل شجاعة وعزيمة واستماتة رجال ونساء أحرار من مناضلي الحقوق الإنسان والأطباء والصحافيين النزهاء والمحامين الشرفاء، الذين بذلوا قصارى جهدهم معرضين حياتهم للخطر، لإبلاغ الرأي العام، وكسر جدار الصمت المفروض على حصون سجن سركاجي النازف.
هذه الجريمة، كشفت من جملة أمور، الدور الإجرامي لجهاز العدالة وفئة من الصحافيين والإعلام عمومًا، والمثقفين الدائرين في فلك عصب السلطة المتعاقبة منذ استقلال البلاد المُصادَر.
والسؤال الأول الذي يفرض نفسه، كيف ولماذا وقعت هذه المجزرة داخل فضاء مؤسسة عقابية وضد أشخاص يفترض أنهم خاضعين لحماية الدولة؟
أسباب وقوع هذه المأساة، وحجم المجزرة المهول، وجدار الصمت الذي أحاط بها، والتدمير المنهجي للأدلة التي كان من شأنها أن تساعد في كشف الحقيقة، إلى جانب المعالجة الخاطفة والمريبة للآثار الناتجة عن هذه القضية، كل ذلك دفع أسر الضحايا ومحاميهم إلى بذل ما في وسعهم لسد الفراغ الصارخ الذي خلفته البيانات والروايات الرسمية.
ومما عزز قناعتهم في سعيهم لمعرفة الحقيقة، واستماتتهم في البحث عنها، ما واجهوه من رفض استفزازي من قِبَل السلطات، لطلبهم بتشكيل لجنة تحقيق محايدة، مؤلفة من عائلات الضحايا، ومحامين وقضاة ومنظمات حقوق الإنسان.
وما يلاحظ أيضًا من جملة إخفاقات السلطات المعنية:
– عدم نشرها تحقيق رسمي، كان من المقرر الإعلان عن نتائجه في غضون عشرة أيام من تاريخ المذبحة؛
– بثها شهادات واعترافات « إعلامية » عبارة عن « تحقيقات تلفزيونية » تَبيّن فيما بعد أنها انتزعت من المستجوَبين، بشتى الوسائل والإكراه؛
– رفضها الأمر باتخاذ إجراءات احترازية حفاظًا على الأدلة المادية؛
– رفضها نشر القائمة الرسمية للضحايا.
مختلف الشهادات التي أدلى بها الناجون من المذبحة، إلى جانب عزم ومثابرة عائلات الضحايا، على الرغم من كل العوائق التي اعترضت طريقهم، واختفاء أقاربهم المغتالين، وما قام به محاموهم من جهود، مكّنت من كشف خيوط مكيدة خُطّط لها سلفا، سنحاول تبيانها في الصفحات الآتية، مُدَعّمة بالشهادات والوثائق، وهدفنا الوحيد المساهمة في إظهار الحقيقة، وبالتالي انتصار سيادة القانون.
تقديم سجن سركاجي
سَرْكَاجِي اسم قديم جديد، جراحه لم تندمل بعدُ. مُجَرد ذكر اسمه كان يثير القشعريرة في نفوس بعض ضحاياه. عُرف في العهد الاستعماري، بسجن بَرْبَارُوسَه، وآوى بين جدرانه وفي زنزاناته عددًا كبيرًا من مناضلي الحركة الوطنية الجزائرية. كان يفترض أن يبقى مَعْلَمًا من معالم تلك العصور الغابرة للذاكرة والتمعن في نضال وعذابات المُسْتَدمِر الفرنسي الغاشم، لكن أُعيد فتحه من قبل سلطة الاستقلال لاعتقال أبناء الجزائر البررة، في ثمانينات القرن المنصرم، بل فيهم حتى من ذاق في زنزاناته اعتقال وعذاب المحتل واعتقال الاستقلال.
يقع السجن المدن » سركاجي » في أعالي الجزائر بحي القصبة، تحيط به وزارة الدفاع، وثكنة على خوجة، ومقر القيادة الوطنية للدرك الوطني. يرجع تاريخ إنشاء سجن »سركاجي » إلى العهد العثماني وقد عرف أثناء ثورة التحرير الوطني بأنه مكان لسجن المحكوم عليهم بالإعدام، والمعذبين من أبطال الثورة، وقد تمّ تحويله إلى متحف بعد الاستقلال. ثم أعيد فتحه في سنة 1982 لتشغيله كمركز للاعتقال لإيواء معتقلين سياسيين في عهدة محكمة أمن الدولة.
يحظى مدير هذا السجن المدعو الحَدّاوي أحمد ونائبه سَعيدْ جُمعة (أثناء المجزرة)، بسمعة جد سيئة من حيث وحشية تصرفاتهما ومعاملاتهما اللاإنسانية إزاء السجناء السياسيين، ويساعدهم في ذلك حارسان توكل إليهما الأعمال القذرة وبالغة الوحشية، وهما سَلْصَافْ رمضان والنُوِي حَميدْ، المتخصصان في الحملات التأديبية في أقبية الطابق السفلي، حسب شهادات الضحايا التي وثقتها صفحات الكتاب الأبيض الممنوع من التداول في الجزائر وفرنسا الى عهد قريب.
تجدّدت مأساة سَرْكَاجِي في فبراير 1995 حيث كان السجن على موعدٍ مع جريمة ستبقى وصمة عار إلى الأبد في جبين السلطة القائمة، إنها مجزرة سركاجي، في ذات الـ 21 و 22 و 23 فبراير، الموافق لـ 2321/22/ رمضان 1415، قبل27 سنة. مجزرة ذهب ضحيتها 109 نفس بريئة.
لقد سبق مجزرة سَرْكَاجِي، مجزرة أخرى، في منتصف شهر نوفمبر 1994 عندما ارتكبت إدارة سجن البَرْوَاقِيَة مجزرة لا تقل بشاعة، أسفرت عن مقتل 62 سجينًا، قضوا تحت وابل من نيران القوات الخاصة، بإشراف مدير السجن، قَمَّاشْ حَمِيدْ Guemache Hamid المعروف بوحشية منقطعة النظير، وقد أكّدت شهادات ناجين أنه أجهز هو بنفسه في هذه المجزة على 5 سجناء بمسدسه الخاص، مجزرة تمّت في جنح الليل وتكتّم مطلق، ودُفِن الضحايا في مقابر جماعية.
أمّا مجزرة سَرْكَاجِي، فقد نُفّذت على خلفية محاولة فرار، حسب الرواية الرسمية، ولم يسمع المواطن الجزائري عن تلك الجريمة إلا ما نشرته السلطة ووسائلها المروجة لروايتها، أي رواية الفاعل الأساسي في الجريمة، ولم تجد رواية الضحية وشهادته طريقًا لإسماع أنينها، ومجالا لإسماع صوتها، وتأتي مجزرة سركاجي كحلقة أخرى في مسلسل تزوير التاريخ والتضليل المنهجي الرسمي. لكن رغم الستار الحديدي المفروض على المواطنين والتضليل الإعلامي الذي مارسته جحافل الأقلام المرتزقة، فقد انكشفت الجريمة البشعة بفضل شجاعة ثلة من الرجال الأحرار من محامين وأطباءٍ وصحفيين نزهاء وناشطين في مجال حقوق الإنسان، حملوا أرواحهم على أَكُفِهِم لإبلاغ الرأي عن هول مجزرة تمّت في جنح الليل، متحدين مخاطر جمة، دفع البعض منهم حريته بل وحياته ثمنًا غاليًا، من أجل فضح الجريمة وهوية مقترفيها. وأخطر ما في الأمر أن جهاز القضاء شارك بقوة في تلك الجريمة، بوعي وتصميم، ومارس نفوذه للتستر عليها من خلال نشر الكذب والروايات المتناقضة على لسان وزير العدل آنذاك محمد تقية، والنائب العام عبد المالك سايح.
كانت اللجنة الجزائرية للنشطاء الأحرار من أجل الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان أول من نشر في منتصف مارس 1995، قائمة من 105 سجين ما بين السياسيين وسجناء الحق العام، وأربعة حراس لقوا حتفهم أثناء المذبحة، بعد أن تكتمت السلطات المعنية عن هذه القائمة من خلال حجب كل رواية تخالف روايتهما مثلما فعلته مع الكتاب الأبيض حول القمع في الجزائر الذي أعدته اللجنة الجزائرية للنشطاء الأحرار من أجل الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان وتم منعه في الجزائر فرنسا.
سركاجي قبل الأحداث
سبقت مجزرة سركاجي، تحركات غير عادية في السجن، من بينها تحويلات للمساجين وتعيينات جديدة لموظفين داخل السجن. نُقِل عدة مساجين من سجون أخرى إلى سركاجي، إلى جانب تحويلات داخلية من قاعات إلى قاعات محدّدة أو زنزانات معينة. كما لاحظ المعتقلون والسكان المقيمون بجوار السجن، حركة غير عادية لسيارات مجهولة تدخل فناء سجن سركاجي في ليلة الـ21 من فبراير، كما تمت عمليات تفتيش غير معتادة وليلية بحضور المدير نفسه، خاصة في جناح المحكوم عليهم بالإعدام، أي القاعة 25، كما لاحظ السجناء حضور الحارس سَلْصَافْ رمضان الذي تم تعيينه ضابط حراسة، مما زاد من ارتياب وخشية السجناء، متسائلين كيف يتم تعيين حارس بسيط لتولي هذه المهمة الحساسة.
نُقِل عدة سجناء من سجون أخرى إلى سجن سركاجي منها سجن الشْلَفْ، والبَرْوَاقِيَّه، والحَرَّاشْ، وقد تمت هذه التحويلات في ظروف غامضة، وخارج نطاق القضاء، وكانت أقرب ما تكون إلى الاختطاف. حيث تمّ نقل بعض المعتقلين من سجن الحراش إلى سركاجي بدون علم النيابة العامة المكلفة بملفاتهم، وهو ما يُعتبر خرقًا لأحكام القانون الجزائري ذاتُه، هذا إلى جانب تعرّض السجناء إلى أنواع من التعذيب والتنكيل، والتهديد بالقتل، أثناء نقلهم من سجن الحراش إلى محافظة الشرطة المركزية بالعاصمة.
تمت هذه التحويلات رغم أن القانون الجزائري المتعلق بالسجون ينص على ضرورة نقل المحكوم عليهم بالإعدام إلى السجون المركزية ثمانية أيام بعد محاكمتهم، من بين هذه السجون سجن الشْلَفْ، البَرْوَاقِيَّه، تِيزِي وَزُو، وسجن تَازُولْتْ، وهي المؤسسات التي يفترض أن تستقبل المحكوم عليهم بالإعدام، في حين أن ما حدث هو العكس تماما إذ تم نقل المساجين من سجون مركزية إلى سجن فرعي، كسجن سركاجي، الذي يُعتبر مركزا لإعادة إدماج المسجونين في عقوبات خفيفة تقدر بمدة سنة سجن. والحاصل أن عددًا من المحكوم عليهم بالإعدام بقوا في سجن سركاجي الفرعي، ولم ينقلوا إلى السجون المركزية.
وهو ما دفع متتبعين الى اعتبار هذه الحركة المُريبة نيةً مُبيّتةَ ترمي الى انتقاء المسجونين المحوّلين إلى « سركاجي « بهدف تجميعهم للإجهاز عليهم بحُجّةِ محاولةِ الفرار.
وهو ما تم بالفعل حيث لوحظ أن أغلبية المحكوم عليهم بالإعدام الذين نُقِلوا إلى سركاجي قُتلوا في واقعة الـ 21و22 فيفري 1995.
– التحويلات والتعيينات الإدارية الخاصة بالحراس
شملت التحويلات أيضا الحراس، فقبل مجزرة سركاجي نُقِل بعض الحراس المعروفين بامتثالهم واحترامهم للقانون، وتم تحويلهم إلى مناصب أخرى! والملفت للانتباه أنه قبيل المجزرة تم توظيف الحارس » مْبَارْكِي حَمِيدْ « الذي لم يبدأ العمل إلا منذ فترة قصيرة في جناح المحكوم عليهم بالإعدام، وهو جناح يقتضي خبرة وممارسة مهنية طويلة! مع الإشارة أن هذا الحارس نفسه كان عنصرًا أساسيًا في محاولة الهروب وهو الذي زوّد المساجين بالأسلحة، وهو ما تنكره الرواية الرسمية، بل تعتبره للمفارقة، أنه هو من أفشل محاولة الفرار.
– قسوة إدارة السجن حيال المساجين
ولوحظ أن المعاملة السيئة للإدارة حيال المساجين ازدادت بصفة كبيرة، وفضلا عن منع المساجين من صلاة التراويح منذ سنة تقريبا، تعرّض المصلون إلى عقوبات تمثلت في تكديسهم في زنزانات موجودة في أسفل الطابق الأرضي، وحرمانهم من زيارة الأقارب، وقفة الغذاء، مع تعرضهم للشتم والضرب والكلام البذيء، واستفزاز الحراس، امتد هذا الى 45 يومًا.
وقد أشار بعض المسجونين إلى المناخ المتوتر الذي كان يسود السجن، أسبوعًا قبل وقوع المجزرة، والذي كان ينبئ بأن أمرًا ما سيقع على غرار ما حدث في سجن البَرْوَاقِيَّه.
أثناء الأحداث
محاولة الفرار وفشلها
حسب الرواية الرسمية بدأت محاولة الفرار بتدبير وتخطيط من طرف الحارس »مْبارْكِي » الذي أدخل السلاح: أربع مسدسات، وست قنابل وفق ما أوردته الإذاعة في أوّل رواية لها، وقد قام الحارس نفسه بفتح أبواب الزنزانات باعتباره حارسًا للجناح، وبالتالي قام بعض السجناء بالخروج من زنزاناتهم والالتحاق به.
وقام هذا الحارس بفتح أربعة أبواب، إلا أنه عند وصوله إلى الباب الخامس المؤدي إلى الفناء الخارجي المطلّ على الشارع، توقّف وامتنع عن مطالبة زميله الحارس بفتح الباب الأخير. وهنا يطرح السؤال نفسه: لماذا امتنع الحارس « مْبَارْكِي » عن التقدّم للباب الخامس، وعن مطالبة زميله بفتح الباب الأخير لو كان فعلا ينوي مساعدة السجناء على الهرب.
ثم لماذا لم يبق معهم حتى النهاية؟ هذا بالإضافة إلى الاستحالة الفعلية لنجاح مثل هذه العملية، لعدة أسباب، منها موقع السجن الذي يوجد في حصانة كبيرة يستحيل اختراقها، فهو مصمم بطريقة خاصة: مُنغلق على نفسه، ويمتاز بجدران سميكة، كما يحيط بالسجن من جهة اليسار القيادة العامة للدرك الوطني، وعلى يمينه ثكنة الجيش، ويقابله ثكنة أخرى تابعة للدرك الوطني، ومن الخلف وزارة الدفاع، وبالقرب من هذه الأخيرة محافظة شرطة « بَابْ اجْدِيدْ ».
ناهيك عن أن الباب الخارجي للسجن يطلّ مباشرة على الشارع الرئيسي المملوء برجال الشرطة والدرك، فضلًا على أن المحاولة وقعت في وقت حظر التجوال.
تساؤل آخر يفرض نفسه: كيف تمكّن الحارس »مْبَارْكِي » من إدخال الأسلحة؟ فسجن سركاجي الذي يأوي سجناء سياسيين يخضع لمراقبة مشددة، ويوجد به أعوان الدرك داخل السجن بصورة دائمة ومنتظمة، وكل زائرٍ، أيًا كانت صفته، يخضع للتفتيش الدقيق، ما يحول دون نجاح أي محاول لإدخال أسلحة.
الأشخاص الملثمون، من هم؟
إثر فشل محاولة الفرار، وفق الرواية الرسمية ورجوع السّجناء إلى مواقعهم ظهر صباح يوم الموالي: الثلاثاء 21 فيفري في حدود الساعة الخامسة رجال مقنعون ويحملون السلاح، ظهروا فجأة وقاموا بفتح الأبواب بالمفاتيح، وتحطيم بعض أبواب زنزانات وقاعات معينة، منها القاعتين رقم « 7 » و » « 8 ثم أمر الملثمون السجناء الذين كانوا نائمين بالخروج. وبعد قيام الملثمين بحث السجناء على الخروج بعد تكسير الأبواب، وجد أكثر من 1000 معتقل أنفسهم في ساحة السجن ولم يتجاوز حينذاك عدد الضحايا خمسة: أربعة حراس وسجين.
كيف قتلوا ومتى؟ ومن هم هؤلاء الملثمون الذين دخلوا السجن بهذه السهولة وبحوزتهم أسلحة؟ وكيف دخلوا واختفوا فجأة؟ وما هو هدفهم من هذه العملية؟
تشكيل خلية أزمة من طرف المساجين
تجنبًا لانفلات الوضع ولتهدئة السجناء، تشكلت خلية أزمة متكونة من حَشّانِي، شَرّاطِي، الواد، كَعْوَانْ وعبد الحق العَيّادَة، تمكنوا من اقناع المعتقلين بعدم الاستجابة للاستفزازات والوقوع في فخ ما يبدو أنه مؤامرة، وتم إيفاد مبعوثين إلى كل القاعات للالتزام بهذه التعليمات.
ثم شرعت خلية الأزمة في اتصالات مع الإدارة، بوفد مشكل من حَشّانِي والعَيّادَة. كانت السلطات العسكرية منذ الساعة الثامنة إلا الربع في عين المكان، تحت إشراف وتنسيق الجنرال غُزَيِلْ رفقة جنرال وعقيد آخرين. وكان النائب العام لمحكمة الجزائر العاصمة عبد الملك السَايحْ يقوم بدور الوسيط.
كان شرط السجناء الوحيد حضور طرف ثالث يتشكل من ثلاثة محامين: عبد النور علي يحيى، مصطفى بُوشَاشِي وبشير مَشْرِي، ليكونوا شهودًا على التزام الإدارة بمعالجة هذه القضية وفقًا للقانون، مثلما عبر عنه أحد الشهود العيان: « كان من الطبيعي أن نطلب ضمانات. لقد عشت شخصيًا مذبحة البَرْوَاقِيَة ورأيت بأم عيني وحشية الجنود لدى اقتحامهم السجن. رأيت مدير السجن يجهز على السجناء بسلاحه الشخصي، كان من الطبيعي، بعد هذه التجربة المريرة، أن نطالب بحضور المحامين على أقل تقدير. »
وحوالي الساعة 10 صباحًا، كُلِف حشاني والعيّادة بإبلاغ هذا الطلب للسلطات العسكرية، لكن قبل وصولهم، اعترضهم المدعي العام عبد الملك سَايَحْ، متهما المعتقلين، ومعربا عن رفضه التام لمسألة المفاوضات، ومُلِحًا على ضرورة تسليم المعتقلين أنفسهم وخضوعهم التام للسلطات العسكرية.
في آخر الأمر فشلت المفاوضات التي دامت أكثر من عشر ساعات رغم توصل الطرفين إلى ما يلي:
التحكم في الوضع وذلك بتهدئة مئات المساجين.
قبول المساجين للشروط التي أملتها عليهم السلطة والمتمثلة في:
الرجوع إلى القاعات والزنزانات.
استسلام المسؤولين عن إزهاق الأرواح، وتطبيق القانون عليهم، وعلى كلّ الذين تسببوا في مخالفات أو أحداث عنف، كان شرطهم الوحيد هو حضور طرف ثالث ليكون شاهداً على الاتفاق.
وهكذا تدحرجت لغة السلم، لتحل مكانها لغة السلاح، العنف، والدّم …
والسؤال الذي نطرحه اليوم: لماذا لم تأخذ السلطة بعين الاعتبار طلب إحضار المحامين الذين اختارتهم خلية الأزمة المشكلة من طرف السجناء؟
» لماذا رفض آمر السجن الجنرال » مدين إسماعيل » فتح أي حوار مع المتمردين؟ » وذلك رغم أن النائب السيد السائح قد وافق على حضور المحامين المطلوبين من قبل المساجين، وسجل أسماءهم في ورقة ولكن لمّا اتصل بالسلطات عن طريق عقيد رُفض طلب المساجين.
المحامون يؤكدون أن السجناء كانوا على استعداد للرّجوع إلى زنزاناتهم ولكن بضمانات، لكن السيد مزيان شريف صرّح في 16 من مارس 1995 « أن قوى الأمن لم تقتحم السجن إلا بعد 12 ساعة من المفاوضات أمام تعنت المتمردين وتصميمهم على الانتحار؟! «
وعندما طلب حشاني حضور المحامين الثلاثة، ثار غضب المدعي العام، السَايَحْ، ورد عليه: « إن الدولة لا تحتاج شهود! وأن طلب حضور المحامين هو مساس بأمن الدولة! » متوعدًا من جديد المعتقلين في حالة عدم عودتهم إلى زنازينهم فورًا ودون قيد أو شرط.
من جهته رد أحد الجنرالات من المخابرات، كان يتولى العملية، بقوله « ليس وارد أن نُحْضِر المحامين، ومن باب أولى عبد النور علي يحيى! » فما كان إلا أن توّجه الشيخ شَرّاطي إلى فناء السجن ودعا السجناء إلى الهدوء والعودة إلى القاعات.
بالفعل أكد السجناء استعدادهم الكامل لإيجاد مخرج سلمي للأزمة، وللعودة إلى زنزاناتهم، خاصة وأن عدد الضحايا لم يكن تجاوز الخمسة وأكّد عبد القادر حشاني بأنه سيقوم بنفسه بإدخال المساجين وغلق أبواب الزنزانات.
وهنا يطرح السؤال، لماذا رفضت السلطات العسكرية وساطة المحامين الثلاثة، علمًا أنه أثناء المفاوضات التي دامت قرابة 10 ساعات لم تُزْهَق أي نفس، زيادة إلى أن هناك سوابق أثبت نجاعة الوساطة وتقديم الضمانات الحقوقية للسجناء وأنقذت أراوح المئات مثلما جرى في 1991 لدى عملية تمرد سجناء الحق العام في سجن الحراش.
كان على هؤلاء المحامين الثلاثة التأكد من:
– أن عدد الضحايا لم يتجاوز العدد المسجل في بداية الأزمة وهم خمسة ضحايا؛
– أن الأمر متروك للسلطات لإجراء التحقيقات اللازمة بعد نجاح الحل السلمي للأزمة، بهدف تحديد المسؤولية، وتطبيق القانون في إطار عادل وشفاف.
في المقابل، تلتزم خلية الأزمة بحزم بإعادة جميع السجناء إلى زنازينهم وقاعاتهم.
لكن، كان رد السلطات الوحيد، رفضًا قاطعًا وعنيفًا أحيانًا، بحجة أن الدولة لا تحتاج إلى شهود.
عقب ذلك شرعت خلية الأزمة في إطلاق سراح حارس احتجزه المعتقلون كرهينة، كبادرة على حسن النية، واستمرت في الإصرار على إحضار المحامين، الأمر الذي رفضته السلطات بإصرار.
خشية منها هجومًا وشيكا بعواقب وخيمة، وبعد شعورها بتوجه ونية شبه علنية، لتنفيذ مذبحة، قررت خلية الأزمة إعادة جميع المساجين داخل زنزاناتهم.
وقد نُفِذ هذا القرار بالفعل من قبل المعتقلين دون إبلاغ السلطات. فقط عندما أوشكت العملية على الانتهاء، أبلغهم حشاني ولعيّادة.
في تلك اللحظة، وعكس كل التوقعات، اختارت السلطات الحل العنيف، وأوقفت المفاوضات فجأة واختطفت أحد المحاورين. كانت الساعة الخامسة والنصف من مساء يوم الثلاثاء 21 فبراير 1995.
في آخر الأمر بدأت قوات الأمن، حسب شهادة السجناء ومصادر أخرى بإطلاق الرصاص باتجاه السجناء من أعلى جدار السجن المطلّ على الساحة التي تضم عدّة قاعات وزنزانات بدون منحهم الوقت الكافي للالتحاق بزنزاناتهم.
تم الهجوم يوم الثلاثاء 21 فيفري 1995 على الساعة الخامسة والنصف عصرًا.
كان أول سجين قتل أثناء عملية القنص الشيخ « يَخْلَفْ شَرّاطِي » الذي أصابته رصاصة قنّاص في رأسه عند اقتحام قوات الأمن السجن مثلما أكده شهود عيان لا يزالون على قيد الحياة، على عكس رواية السلطة والشهادات التي أدلى بها سجناء تحت الإكراه وتم بثها في التلفزيون الرسمي بما يخالف قوانين الإجراءات القانونية مثل التي أدلى بها المدعو عمر بوعلام المحكوم عليه بالإعدام.
عمليات تصفية انتقائية من قبل قناصين
أول ضحية للعمليات القنص من أعلى جدران السجن، كان يخلف شراطي، عضو خلية الأزمة (التي تشكلت من قبل المساجين، للتفاوض مع إدارة السجن لحل الأزمة وعودة الأمور إلى وضعها الطبيعي)، وبقي شراطي بفناء السجن، لضمان إتمام عملية دخول كافة المساجين إلى زنزانتهم، في هدوء وانضباط.
واصل شراطي يردد واقفًا، التعليمات التالية للمساجين: « لا تردّوا على الاستفزازات، حذار من الوقوع في فخ آلية المكر التي تتربص بكم »، وواصل واقفا يمسك في يده مصحفًا ويتلو آيات من الذكر الحكيم، عندما اخترق رصاصة رأسه، فهوى إلى الأرض، مدرجًا بالدماء، وظل الدم ينهمر من جسده وهو يواصل تلاوة القرآن، اقترب منه أحد زملائه السجناء وهو يزحف على الأرض للاقتراب منه، وحاول حمله في ذراعيه قليلا، قبل أن يعيد القناصون استهدافه بوابل من الرصاص، ومن جديد أصيب شراطي برصاصة هشمت ساقيه.
كان الشيخ يَخْلَفْ شَرّاطِي مُستهدفًا بشكل خاص من قبل المدير ومساعديه، وذلك إلى غاية يوم اغتياله. كان الشهيد يَخْلَفْ شَرّاطِي منذ أو يوم من اعتقاله في 1993، عرضة للتحرش المستمر وضحية لجميع أنواع سوء المعاملة من قبل حراس أوكلت إليهم هذه المهمة، وقد قضى الضحية جل وقته في أقبية الطابق السفلي، في عزلة تامة ومعرضا للضرب الوحشي وعاريا رغم إصابته بمرض الربو.
وعن اغتياله، يقول أحد الشهود:
« رأيت الشيخ شراطي ينظم تدفق حركة السجناء في الساحة، كان يحمل مصحفًا بيده اليمنى و ذراعه مرفوعة إلى السماء، ويدعو إخوانه بـ »عدم الرد على الاستفزازات ». « هذه مؤامرة تهدف إلى إبادتنا، عودوا إلى زنازنكم، حفظكم الله! » تحذيرات أطلقها قبل أن يستأنف تلاوة آيات من القرآن الكريم. حدث ذلك بين الساعة الخامسة والسادسة عصرا. »
« فجأة، سمعنا طلقة رصاص، ثم شهدنا الشيخ شراطيي يترنح قبل أن يسقط أرضًا، ماسكًا المصحف بيده، والدم ينفجر من رأسه، مواصلا تلاوة القرآن الكريم بطريقة متقطعة، قبل أن ينهار ويصمت إلى الأبد، وقد تجمعت بركة من الدماء قرب رأسه. توجه نحوه معتقلان، في محاولة لإسعافه قبل أن يطلق الرماة زخة أخرى من الرصاص فهشمت ساق الشيخ شراطي، فيما استقرت إحدى الرصاصات في كوع أحد المسعفين، ثم توالى إطلاق النار بشكل كثيف. ومن فترة لأخرى كان بعض أفراد قوات الأمن يلقون حبالاً مزودة بسنارات كبيرة، لانتشال بعض الضحايا إلى أعلى السطح كجثة السيد يخلف شراطي، أمّا بُومَعْراِفي لَمْبَارَكْ والحارس مْبَارْكِي حَمِيدْ فقد تمّ رفعهما بعد القصف المكثف. »
إلى جانب القصف المكثف والعشوائي نحو الساحة، كان هناك قصف مكثف مركز على قاعات معينة مثل ال قاعات 25، 29، 30، 31التي آوت المعتقلين المحولين مؤخرًا، لاسيما القاعة رقم « 25 » التي لجأ إليها المساجين هروبا من القصف الأعمى الموّجه إلى الساحة. وبعد هذا القصف الانتقائي، اقتحمت قوات الأمن السجن، وتوجهت إلى زنزانات معينة، ثم بعدها وجهت أسلحتها الأوتوماتيكية إلى الزنزانات عبر الفوهات وبدأت تطلق النار بكل برودة على الأشخاص الموجودين بداخلها كما ألقت عددًا من القنابل اليدوية داخل الزنزانات.
« إطلاق رصاص، صراخ، أنين، وكأننا نشاهد نهاية العالم » يقول أحد الناجين من القاعة 31 « ولم تتوقف عملية إطلاق النار التي دامت 17 ساعة إلا بعد إعلان أحد الدركيين بأن الجنرال يأمر بوقف إطلاق النار! ».
قال أحد الحراس الذين تحدّوا المخاطر وأدلوا بشهادتهم رغم التهديدات، أن المدعي العام كان يرتجف، فوقف بجنب أحد الضباط الذي كان يشرف على عملية إنقاذ بُومَعْرَافِي والحارس مْبَارْكِي، مبتهجًا ومهنئًا لهم » هذا أمر رائع حقا، بارك الله فيكم ».
بعدها شرعت قوات الأمن في إخراج الجثث وقد كانت الأشلاء تجمع بالأيدي في أكياس البلاستيك، لأنها ذابت تمامًا. وتفيد بعض الشهادات بأن الساحة وبعض الزنزانات كانت تعكس مشهدًا مروّعًا يفوق حتى مشاهد الأفلام الخيالية. دماء، أشلاء، وقطع من لحوم الجزائريين، وأعضاء مبتورة مبعثرة هنا وهناك… كارثة حقيقية، مجزرة بأتمّ معنى الكلمة.
وفي فجر اليوم الموالي في 22 فبراير بدأ يخف إطلاق النار، وعلى الساعة التاسعة أعطى جنرال المخابرات والجنرال غزيل الأمر بوقف إطلاق النار، ما قد يوحي بانتهاء المعاناة، غير أنها للأسف مجازر من نوع آخر حلّت مكان الأولى.
القائمة السوداء
بعد وقف إطلاق النار، انتقلت قوات التدخّل، المشكلة من عناصر الجيش وقوات الأمن إلى المرحلة الثانية؛ وهي الإجهاز على الجرحى، خاصة في القاعات 25 و29و30و31، أي القاعات التي يتواجد بها « السجناء السياسيين المستهدفين بالعملية ».
يقول شاهد أصيب بعيار ناري في الفخذ « بعد الهجوم الأخير، اقتحم الجنود قاعتنا، كانوا مدججين ببنادق كلاشنيكوف والحراب، وراحوا يدوسون بأحذيتهم على أجسادنا، ويطعنون بحرابهم كل من وقع تحت أقدامهم للإجهاز عليه، فتظاهرت وكأنني جثة هامدة… »
وحوالي منتصف النهار، وفق شهادات عديدة متطابقة، ظهر من جديد المدنيون الملثمون الذين فتحوا أبواب الزنازين فجر أمس، كانوا برفقة ضابط مظلي، ومدير السجن واثنين من الحراس. كان أحد المدنيين المقنعين يحمل قائمة، وينادي بأسماء محددة من السجناء، بينما يقوم الحراس بتقليب الجثث للتعرف على هويتها. وكلما عثر على سجين من المنادى عليهم، لا يزال على قيد الحياة، يتم نقله من طرف الملثمين بأمر من الضابط، إلى مكان متوارٍ عن الأنظار ليجهز عليه برصاصة مسدس. حُسِينْ مْتَاجَرْ، أحد المعتقلين أصيب في بطنه ورقبته، فبعد أن تعرّف عليه الحَارِسْ النُوِي، أجهز عليه أحد المسلحين الملثمين بمسدسه الشخصي. ونفس المصير لقاه كل من حُسِينْ كَعْوَانْ، ونور الدين حَرِيكْ، ومحمد الواد، ومراد كْرِيتُوسْ، ومراد بُوعَكَازْ وإسماعيل بُوغْرُومَة، تم إخراجهم جميعًا من القاعة وقتلهم برصاص من قبل الملثمين. وبعد ساعات تقدّم نائب مدير السجن إلى المحبوسين قائلًا: « هاهو كعوان حسين، انه يغنّي الفوق! » مشيرًا بأصبعه إلى السماء، بنبرة استهزائية في حق حسين كعوان المعروف سابقا بغنائه الشعبي.
قاسم تاجوري ومعتقل آخر، كانا ضمن القائمة في حوزة الملثمين، لم يتمكنوا من تحديد مكانهما فاستشاطوا غيضًا، وأعلنوا عن التعبئة العامة، مع استخدام مكبّرات الصوت في كل مكان في فناء السجن، وفي القاعات، بحثًا عن تاجوري، الذي وُصِف من قبل أحد الحراس، بأنه يرتدي سترة صفراء. وفي الأخير تمّ تحديد مكان تاجوري في القاعة 25، كان مصابًا بجروح خطيرة، وملقى بين الجثث الهامدة. سترته لم تعد صفراء اللون، فقد طغى عليها لون الدم الأحمر الداكن. قام أحد الجنود بوخزه في الظهر مستعملا حربة بندقيته، وعندما تحرك تاجوري من شدة الألم، أجهز عليه أحد الملثمين برصاصة من مسدسه الشخصي.
وغير بعيد، كان الحارس سَلْصَافْ رمضان يسير بين الجثث والجرحى، يُلَوِحُ مبتهجًا. ويقول أحد الشهود: « لقد كان مشهدًا مروعًا في فناء السجن، برك من الدماء المتناثرة، العديد من القتلى والجرحى تمً انتشالهم بواسطة السنانير إلى أعلى الأسطح. »
أفاد شاهد عيان آخر: « نزلت إلى الفناء مع بعض الزملاء، رأيت في الساحة أحد الإخوة المعتقلين، جمال بومزراق، كان يتنفس بصعوبة، نظرًا لإصابته بنوبة ربو حادة. فرفع ذراعيه مستغيثًا، وبعد أن لمحه الحارس سَلْصَافْ، الملقب « بالرْتِيلَة » (أي العنكبوت) اقترب منه وشتمه، ثم وجّه إليه ضربتين بعصاه الحديدية. فقد بومزراق وعيه بعد أن أطلق صرخة أجش، لم يفق بعدها أبدًا، لفظ أنفاسه الأخيرة أمام أعيننا على يد الحارس المجرم رمضان سَلْصَافْ ».
بعد الهجوم… استمرار المعاناة
مباشرة بعد الهجوم الدامي قامت قوات الأمن بتجميع المساجين في الساحة وأمرتهم بالخروج من القاعات والزنزانات زاحفين على بطونهم، يقول أحد شهود العيان: « كان الأمر بالخروج بالزحف على البطن، فخرجنا نزحف وأمِرْنا بالتوّجه إلى ساحة السجن، وخلال كل المسافة كنا نُضرَب بحراب البنادق وأعقابها، وبالقضبان الحديدية. كانت الممرّات مدرجة بالدماء، صراخ المعذّبين يملأ السجن. أنا شخصيًا كنت في الأسفل وأردت أن أخرج من تلك الوضعية، وأموت بالرصاص أو الضرب أفضل لي من أن أموت اختناقًا، ورغم أننا كنا في شهر فيفري فقد بُلِلت أرضية الساحة إمعانًا في تعذيبنا بالبرد، واستمرّ الضرب بواسطة قضبان حديدية وخشبية وأحزمة عسكرية من الساعة الثالثة والنصف إلى الساعة السادسة من نفس اليوم تحت الأمطار الغزيرة في تلك الليلية من شهر رمضان، وظل السجناء بدون أكل لمدة 3 أيام! »
وكان يُطلب من بعض المساجين الوقوف مع التصفيق والرقص وهم يضحكون عليهم، كما كانوا يأمرونهم بقول كلام فاحش وبذيء ضد أنفسهم وضد شخصيات سياسية، وكذلك سبّ دينهم، وإذا امتنعوا يهددونهم بالالتحاق بقائمة القتلى التي لا تزال مفتوحة.
بل وقد تم الاعتداء على شرف وعرض بعض المعتقلين مثلما يقول أحد السجناء: « خلال الهجوم اعتدى على عرضي أحد عناصر الفرق المتدخّلة من الملثمين المسلحين كما فقد مسجون آخر بصره، إثر الاعتداء عليه من طرف الحراس! »
وأفاد محامون أنهم تلقوا شهادات تؤكد استمرار اعتداءات الحراس الرهيبة حتى بعد الاقتحام، منها إخراج المُحامي زْوِيتَه من القاعة التي كان فيها وانهالوا عليه بالضرب والشتم، وهدّدوه بالموت، كما كاد السيد محمد خليل رُوَابْحِي أن يلتحق بركب الأموات، عندما أخذ ملثمون يحملون قائمة الأسماء صرخوا، أين روابحي؟ أين زويتة؟ أين تاجوري؟ فاختبأ روابحي بين الموقوفين في إحدى القاعات وبقي متخفيًا هناك، ونصحه بعض المحبوسين بأن لا يبوح باسمه لأنّ بعض المجهولين يلاحقونه ويريدون الإجهاز عليه، فبقي متواريًا عن الأنظار حتى نهاية الأحداث، ونجا بأعجوبة.
وفي يوم الأربعاء 22 فبراير، الواحدة ظهرًا، أعلن وزير « العدل »، محمد تُقْيَة، على أمواج القناة الثالثة (الناطقة بالفرنسية) عن « نجاح ما وصفه بعملية استرداد النظام في سجن سركاجي »، مشيدًا ببسالة قوات التدخّل على إنجازهم الرائع، وكأن قتل 109 من المعتقلين داخل السجن، يعد « إنجازًا » في نظر وزير العدل.
وقد أجمع الشهود على أن قوات الأمن والجيش استعملت أثناء هجومها عدة أسلحة منها حتى الأسلحة نصف الثقيلة (F.M.P.K) وبنادق قاذفة للقنابل، والأسلحة الرشاشة الأوتوماتيكية (كلاشينكوف) والقنابل المسيلة للدموع، وغيرها…
حجم المجزرة
مرّة أخرى يظهر التناقض، بل تظهر التناقضات في تقدير العدد الحقيقي لضحايا سجن »سركاجي »، إذ أكّدت السلطات الجزائرية أن عدد الضحايا بلغ 96 قتيلا و12 جريحًا فقط. لكن مصادر في الجبهة الاسلامية للإنقاذ أصّرت على أن الرقم أكبر من ذلك بكثير، وعن عدد كبير جدًا من الجرحى. وكان مكتب المدعي العام الجزائري أعلن في بيان أنّ العدد الرسمي لضحايا عملية إخماد التمرد في « سركاجي » يبلغ 96 قتيلًا. وأوضح أنّ السلطات المختصة أجرت تحقيقًا بناءً على طلب وزارة العدل التي يرأسها محمد تقية تبين على إثره « أن 81 من الإرهابيين قُتلوا أثناء اقتحام قوات الأمن السجن »، وأضاف « أن 15 من المجرمين العاديين قتلوا في العملية. وأن أربعة من حراس السجن قتلوا على أيدي السجناء. » مشيرًا إلى سقوط 12 جريحًا من بينهم حارسان، في حين أشارت مصادر في الجبهة الاسلامية للإنقاذ ردًا على معلومات المدّعي العام، على أنّ القتلى أكثر من 200 وقالت لصحيفة « الحياة » في لندن أنّ معلومات من مصادر موثوقة بها وردت إليها، تشير إلى أنّ القتلى 201 وأضافت أن عدد الجرحى كبير جدًا.
بعد المجزرة
تبديد أدّلة المجزرة من طرف إدارة السجن
وجّه تقرير المحامين اتهامًا إلى السلطات بتبديد وإزالة آثار المجزرة بعد الأحداث. حيث سبق أن طلب المحامون من النيابة المختصة في محكمة بَابْ الوَادِي بحجز أدلة الإثبات وتركها على حالها، مع وضع الخواتم القضائية عليها، ريثما يتمّ التحقيق فيها. لكن الجهات المعنية تجاهلت الطلب، حيث قامت إدارة السجن ساعات فقط بعد نهاية المجزرة بنزع كل آثار المجزرة وخاصة في القاعة « 25 » التي أصبحت ركامًا، وقد هُدِّم بابها كلية، بحيث أعيد طلاؤها وترميمها بعد إزالة آثار التقتيل الوحشي، المتمثلة في أشلاء الضحايا، ولون الدم القاني الذي التصق بالجدران، كما جمعت ثياب الضحايا الملطخة بالدماء وأحرقت، وتمّت تغطية الثقوب الكثيرة الناجمة عن القصف الكثيف، والرصاص الثقيل لسلاح « F.M.P.K »، ورصاص الكلاشينكوف، وآثار القنابل اليدوية.
الحصار والضغوطات المستمرة على السجناء
صمت إنّهم يُدفَنُون!
بعد المجزرة البشعة والرهيبة، تم جمع ونقل أشلاء الضحايا أو ما تبقى منهم إلى مصلحة حفظ الجثث بِبُولُوغِينْ، بعضها نقل في أكياس صغيرة من البلاستيك، وقد تمّ تكديسها أيّامًا عديدة حتى تحلّلت، وتمً الدفن في سرية تامّة على أساس قائمة تحمل أرقامًا متبوعة بعلامة X أي « جزائري مجهول »، وبدون حضور أقارب الموتى أو حتى الإشعار القانوني للجهة المختصة إقليميًا، بل ومن غير تصريح بالدفن.
وبعد أن افتضح الأمر، أعطيت أرقام معينة للموتى وأرقام القبور، وقد تحدّث محامي أحد أولياء الضحايا، عن المقابر الجماعية أين دفنت الجثث وهي لا تزال ساخنة، في حين أفاد محامي آخر اعتاد على زيارة سجن سركاجي، أن هناك عدد كبير من الموتى المتراكمين فوق بعضهم البعض، والعديد من الجثث المشوّهة وغير المعروفة.
وأكّد أحد الحفّارين في مقبرة العالية قائلًا « إنّ الجثث كانت تُدفن عادة في نهاية المساء في تابوت من الخشب، دون أن يعلم أحد ماذا يوجد بداخلها »!
والحاصل أنهم حتّى وهم أموات لم تُحترم كرامتهم، ولم يُدفنوا كما يجب، فبعد تكديسهم في السجن، ثم في مصلحة حفظ الجثث، كان مصيرهم أخيرًا أن يدفنوا جماعيًا في سرية تامة وتحت اسم « جزائري مجهول »!
مُعاناة العائلات
خلال الأيام التي تلت الواقعة، عاش أكثر من 1500 عائلة حالة من القلق والفزع والانتظار المرعب، تحترق قلوبهم من أجل معرفة شيء عن مصير ذويهم. وقد حَفَتْ أقدام الأمهات والآباء، ذهابًا وإيابًا إلى السجن، فبعضهم سمع الخبر عن طريق التلفزيون، والبعض الآخر من مصادر أخرى. كانت بعض العائلات تستيقظ في رمضان من تلك السنة، في الصباح الباكر لتبقى قريبة من السجن لعلها تسمع خبرًا عن قريبها، لكن دون جدوى، لم تسرّب أي معلومة. كما كانت العائلات لمّا تذهب إلى السجن للاستعلام، تُقابل بألوان من الشتم والكلام البذيء، في عبارة تَصُمُّ لها الآذان « اذهبوا وابحثوا عنهم في مقبرة: القَطّارْ أو العَالِية ».
ولما رُفع المنع، أي بعد 11 يومًا من المجزرة، تمكّن المحامون من الدخول إلى سجن سركاجي، كانوا يسألون عن موكليهم لعلّهم يجدونهم أحياءً، وبذلك أصبح المحامون هم السبيل الوحيد الذي لجأت إليه العائلات لمعرفة مصير ذويهم.
وبالنسبة لعائلات الضحايا ونظرًا لعدم قدرتها على الحصول على معلومات أو دلائل مادية حول الظروف التي تُوفي فيها ذويهم، أقامت بعض العائلات دعاوي في « محكمة رايس حميدو » لباب الوادي ضد القتل العمدي (Homicide volontaire) كما طالبوا بفتح تحقيق مع استخراج الجثث والقيام بالتشريح من أجل التعرّف عل كلّ ضحية، لا سيما وأنّ هناك أقاويل تذكرُ أن القبور تحتوي على أشلاء متبعثرة في أكياس البلاستيك. ولكن طلبات عائلات الضحايا للجهات القضائية المختصة لم تؤخذ بعين الاعتبار إلى يومنا هذا!
يُجمع الخبراء أن إجراء التشريح ومعرفة آراء الطبيب الشرعي وخبراء المقذوفات، كان من الممكن أن يُسهم إلى حد كبير في معرفة كم عدد القتلى الذين أصيبوا برصاص قوات الأمن ومن أي مسافة تم إطلاق الرصاص، وكذا عدد الذين قتلوا بإلقاء القنابل اليدوية. وكذلك التأكد من هوية المقتول، وسبب وظروف وفاته، بل إن الطب الشرعي يسمح في كثير من الأحيان بتحديد ساعة ومكان الوفاة، كما أنّه كان من الضروري أخذ صور بالألوان للضحايا ولآثار الجروح على الجثث، وتضمينها في التقرير النهائي.
كل هذه الاجراءات التي ينصّ عليها القانون الجزائري ذاته كان من شأنها التحقق من صحة مزاعم السلطات، بأن السجناء قتلوا من طرف سجناء آخرين بالسلاح الأبيض.
وكان من الممكن أيضا التأكدّ ممّا جاء في تصريح أحد أعضاء اللجنة التي كوّنها المرصد الوطني لحقوق الإنسان المعيّن من قبل الحكومة، الذي ذكر أنّ « معظم الضحايا أصيبوا بجرح رصاصة في الرأس » الأمر الذي أثار استغراب ممثلي منظمة العفو الدولية، لأنه في حالة صحّ هذا التصريح، فمعنى ذلك أن المسجونين قد قتلوا عمدًا!
وعن تقرير المرصد الوطني لحقوق الإنسان فيما يخّص أحداث سركاجي، قال المحامي الأستاذ مصطفى بُوشَاشِي:
« الخصم لا يمكن أن يكون هو القاضي، ليس في استطاعة لجنة التحقيق الحكومية برئاسة عبد الرزاق بارة، المشكّلة من وزارتي العدل والداخلية أن تتوصل إلى نتائج نزيهة لأن هاتين المؤسستين شاركتا في الإشراف على الأحداث التي انتهت بمأساة. ولهذا السبب طلبت مجموعة الدفاع عن الضحايا منذ البداية بإنشاء لجنة مستقلة للتحقيق، وذلك نظرًا لحجم المأساة، على أن تشمل هذه اللجنة محامين، وأعضاء من أسر الضحايا ومنظمات حقوق الإنسان ».
بالفعل، جاء تقرير لجنة التحقيق التابعة للمرصد الوطني لحقوق الإنسان (ONDH) بشأن أحداث سركاجي في شهر ماي 1995 متناقضا بشكل جليّ فيما يخصّ بعض النقاط، مثيرًا انتقادات لاذعة من قبل العديد من منظمات لحقوق الإنسان، كمنظمة العفو الدولية (Amnesty International)، ومنظمة (Human Rights Watch)، وكذا منظمات حقوق الإنسان الجزائرية ومحامين جزائريين.
فرغم وجود قرابة 1500 معتقلا في سجن سركاجي، اكتفت اللجنة بإجراء مقابلات مع عشرة معتقلين فقط، وكان معظم المستجوبين قد أدلوا بشهادتهم في مقابلات أجراها التلفزيون الجزائري بعد بضعة أيّام من الحادث، في انتهاك صارخ للقانون، وقد جاءت أقوالهم مطابقة لما ذكرته السلطات، مما يشير إلى أن المساجين أُجبروا على الادلاء بشهاداتهم تحت التهديد.
كما أن التقرير لم يُفسّر السبب الذي من أجله لجأت قوات الأمن إلى استخدام القنابل اليدوية والذخيرة الحيّة، ممّا أسفر عن سقوط هذا العدد الكبير من القتلى والجرحى بين المعتقلين.
وفي الصفحة (25) من تقرير لجنة عبد الرزاق بَارَة ذكرت هذه الأخيرة في تبريرها للدّفن المستعجل وعدم إجراء عمليات التشريح لجثث الضحايا « أن التشريح لم يتم سواء تعلقّ الأمر بجثث الحراس المذبوحين أو السجناء الرهائن أو السجناء المتمرّدين لأن الأسباب المؤدية إلى الوفاة كانت معروفة مثلما أوضحت ذلك النيابة العامّة لأعضاء اللجنة ».
وذكر التقرير أنه « تمّ تصوير جميع القتلى من السجناء وأخذ بصمة أصابعهم من طرف مصلحة الإنابة التابعة للشرطة القضائية. وقد أعطي لكل جثة رقمًا يتناسب مع ملف يحتوي إضافة إلى الصورة وبصمات الأصابع، وشهادة إثبات الوفاة وشهادة طبية وصفية « .
وفي جوان 1995 التقى مندوبو منظمة العفو الدولية مع أعضاء لجنة التحقيق التي شكّلها المرصد الوطني لحقوق الإنسان في الجزائر، وطلبوا نُسَخًا من صور الجثث والشهادات الطبية الخاصة بها ولكن أعضاء اللجنة قالوا إنّ الصور والوثائق الأخرى ليست بحوزتهم وإن كانوا قد اطّلعوا عليها عند إجراء التحقيق. وفي ماي 1996 طلب مندوبون من منظمة العفو الدولية، مرّة أخرى من رئيس « المرصد الوطني لحقوق الإنسان » إمدادهم بنُسخ من الصور الفوتوغرافية، فأنكر علمه بوجود أيّة صور من هذا القبيل !
ولمّا نوّه المندوبون إلى أنّ تقرير « المرصد الوطني لحقوق الإنسان » قد أشار إلى وجود هذه الصور قال إنه لا يذكر شيئا عن وجود مثل هذه الصور! وهو الذي وقّع عليه بوصفه مُقرِرًا للجنة التحقيق.
وفي سؤال للسيد المحامي بُوشَاشِي فيما كان على دراية بوجود الصور الفوتوغرافية وهل هناك صور فعلًا، أجاب « لا أظنّ ذلك، لأنه في اعتقادي لا يوجد جثث أصلًا، كانوا يأخذون الأشلاء بأيديهم ويضعونها في الأكياس ».
وتذكر منظمة العفو الدولية في أحد تقاريرها، أنه قد لا توجد صورٌ أصلًا أو أن هناك صورًا تثبت قيام قوات الأمن بارتكاب انتهاكات جسمية لحقوق الإنسان، بما في ذلك ما يُحتمل أن تكون عمليات إعدام خارج نطاق القضاء. وكل ذلك يفسّر سبب عدم إقدام لجنة التحقيق بتلبية طلب عائلات الضحايا ومحاميهم باستخراج الجثث وتشريحها.
وجاء في ملخص لتقرير Human Rights Watch بتاريخ 21 أوت 1995 أي بعد ستة أشهر عن الأحداث، أنّ التستر على عملية القمع التي أسمتها السلطة تمرّد سركاجي، يدلّ على مناخ الإفلات من العقاب الذي أحاط بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان على يد قوات الأمن الجزائرية.
ويقول كريستوفر جورج، المدير التنفيذي لـ Human Rights Watchبمنطقة الشرق الأوسط، في إشارة إلى حادث دموي آخر وقع في سجن البَرْوَاقِيَة، بجنوب العاصمة، في نوفمبر 1994: « يبدو أن الحكومة الجزائرية لديها الكثير ممّا تخفيه. هذا ثاني أخطر حادث يتعرّض له السجناء الإسلاميون بوحشية، وقد رفضت السلطات تقديم إجابات موثوق بها أو السماح بإجراء تحقيقات مستقلة « .
فيما يلي تحقيق المرصد الوطني لحقوق الإنسان ONDH.
اللجنة الوطنية غير الحكومية للتحقيق في أحداث سركاجي
وفي يوم 27 فيفري 1995، بادر المرصد الوطني لحقوق الإنسان بتقديم اقتراح لإنشاء لجنة وطنية غير حكومية تتكّون من ممثلين للمنظمات الآتية:
• الاتحاد الوطني للمحامين Union Nationale des Barreaux
• المجلس الأعلى للقضاءConseil Supérieur de la Magistrature
• الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسانLigue Algérienne des Droits de l’Homme (LADH)
• الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان Ligue Algérienne de Défense des Droits de l’Homme (LADDH)
• الاتحاد الطبّي الجزائري Union Médicale Algérienne
وقد استجاب المجلس الأعلى للقضاء والاتحاد الطبي الجزائري للمبادرة، حيث قاما بتعيين ممثلين عنهما للانخراط في هذه اللجنة. غير أن الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان رفضت المشاركة في حين لم يصل أي جواب في هذا الشأن من الإتحاد الوطني للمحامين أو الرابطة الجزائرية للدّفاع عن حقوق الإنسان.
ومن جهة أخرى عبّرت ثلاث منظمات أمريكية للدّفاع عن حقوق الإنسان وهي (Human Rights Watch)، لجنة المحامين لحقوق الإنسان (Lawyers Comitee For Human Rights) وأطباء حقوق الإنسان (Physicians For Human Rights) عن استعدادها لإجراء تحقيق في هذا الموضوع أو المشاركة فيه، وقد كان الجواب على ذلك أن تكون اللجنة المقترحة وطنية وغير حكومية (Commission nationale et non gouvernementale).
أمّا منظمة العفو الدولية (Amnesty International) فقد طلبت في بيان لها صدر بتاريخ 27 فيفري 1995 بإجراء تحقيق مستقل على أن تُنشر نتائجه بصورة علنية.
وأصدرت جماعة من محامي لمعتقلين بسركاجي، وعددهم 13 محاميًا بيانًا نُشِر في صحيفة لاناسيون « La Nation » وهي أسبوعية مستقلة، بتاريخ 21-27 ماي 1995 عبّروا فيه عن اعتراضهم على العدد الرسمي للقتلى. ولدى إطلاع اللجنة على هذا البيان قامت بتوجيه دعوة إلى كل واحد منهم على حدة بغرض تقديم شهادته سواء كان ذلك كتابيًا أو بالتقرّب من الأمانة.
ولم تتلقّ اللجنة أيّ ردّ في هذا الشأن، ما عدا الأستاذ محمود خليلي(Me Mahmoud Khellili) الذي ذكر في رسالة مؤرخة في 30 مارس 1995 بأنه لا يثق في المرصد الوطني لحقوق الإنسان.
وأثناء تنصيب اللجنة بمقرّ المرصد يوم 27 مارس 1995 تمّ تعيين محمد كمال رزاق بارة (Mohamed Kamel Rezzag Bara) مقررًا، وبالمثل تمّ تحديد المهمة الموكلة إليها، ومن خلال تقرير لجنة عبد الرزاق بارة، بدا للجنة بأنّ:
• أحداث سركاجي يمكن تحليلها على أنّها محاولة للفرار تمّ إفشالها بسرعة، قبل أن تتحوّل إلى تمرّد بجناح السجن المخصص للسّجناء المتابعين في إطار القانون المتضمّن مكافحة الإرهاب والتخّريب.
• محاولة الفرار لسركاجي التي تحوّلت إلى تمرّد تبدو أنها تحمل أوجه الشبه مع المحاولات الناجحة وتلك الفاشلة التي نظمت في المؤسسات العقابية الأخرى « لتازولت » والبرواقية، تيارت، المرسى الكبير، شرشال والحراش، تبسة، وغيرها منذ نهاية سنة 1992م.
• وحسب العدد الكبير من الشهادات المتطابقة، بدا بالنسبة لهذه الفئة من السجناء بأنّ العملية التي بدأت خارج مركز الاعتقال ستتواصل داخله.
• هذه الأعمال ساعدتها التساهلات الناتجة عن النقائص الملاحظة في نظام الحراسة والمراقبة، وفي كلّ مرة كان التواطؤ من طرف بعض الحراس من الداخل كعامل حسم.
• حسب الكثير من الشهادات المتوافقة، يمكن اعتبار بأنّ نظام السجن المطبّق على المساجين المتابعين في إطار قانون مكافحة الارهاب والتخريب هو أكثر صرامة من النظام المطبق على سجناء القانون العام، إلا أنّه بدا للجنة بأنّ نظام الحبس ليس هو مصدر محاولة الفرار التمرد.
• لاحظت لجنة التحقيق أن تسيير المؤسسة العقابية لسركاجي لا يتطابق بتاتا مع قانونها الأساسي، حيث تعتبر كمؤسسة لإعادة التربية إلاّ أنها تقوم بدور مؤسسة الوقاية وإعادة التأهيل.
• ويضاف إلى هذا الوضع المختلط، الآثار السلبية الناجمة عن اكتظاظ السجناء الذين يتكونون أساسًا من المعتقلين المتابعين أو المحكوم عليهم في إطار قانون مكافحة الإرهاب والتخريب.
• علاوة على ذلك، اكتشفت اللجنة عدم تكييف نظام الأمن القائم داخل أروقة السجن والتحضير غير الفعّال للعناصر المكلفين بإعادة التربية الموجهين لهذا النوع من السجناء وخاصة غياب الإجراءات الأمنية الوقائية المطبقة على الأشخاص المكلفين بالمراقبة أثناء دخولهم وخروجهم من أروقة السجن، وقد كان هذا العامل حاسمًا في التحضير للعملية.
• ومن جهة أخرى تتأسّف لجنة التحقيق لانعدام التجهيزات الأمنية العصرية التي من شأنها تجنيب النقائص البشرية أو التواطؤ النشيط.
• بعد فشل المفاوضات بين خلية الأزمة « Cellule de crise » والوسطاء « Médiateurs » التي انطلقت من الساعة 7 س و30 د إلى الساعة 16 من نفس يوم الثلاثاء 21 فيفري 1995، سُمح لقوات الأمن بالتدخّل حيث قامت بنشر عناصر وحداتها داخل المؤسسة ممّا أدى إلى استسلام تدريجي لأكبر عدد من المتمردين.
• وقد امتد هذا التدخل الذي رافقه توجيه نداءات متتالية للعودة إلى الهدوء من الساعة 16 من يوم الثلاثاء 21 فيفري 1995 إلى يوم الأربعاء 22 فيفري 1995 على الساعة العاشرة.
• تتأسف اللجنة للعدد الكبير للقتلى على إثر تدخّل مصالح الأمن وكذا لمنطق استعمال القوة الذي فرضته مجموعة من المتمردين والذي يحتمل جدًا أنهم مسؤولون عن اغتيال الحراس الأربعة احتجاز 26 سجينًا من سجناء القانون العام كرهائن.
• ويأمل أعضاء اللجنة، الذين يعتقدون بأنهم أنهوا فترة التحقيق بكلّ ذمتهم وضميرهم، بأنّ يعمل هذا التقرير على ترقية دولة القانون في الجزائر ويعربون عن ارتياحهم للتسهيلات التي قدّمت لهم لإتمام مهمتهم إلى غايتها.
حرّر بالجزائر في يوم 16 ماي 1995
مقرّر اللجنة
السيد كمال رزاق بارة
ملاحظة: لقد تم عمومًا نقل أهمّ ما جاء في تحقيق المرصد الوطني لحقوق الإنسان مع قليل من التصرّف، لكن أغلب التحقيق نقل كما هو.
ما يسجّل على تحقيق المرصد الوطني لحقوق الإنسان فيما يخّص أحداث سركاجي
لقد تمّ نشر تقرير لجنة التحقيق التابعة للمرصد الوطني لحقوق الإنسان (ONDH) فيما بتعلق بأحداث سركاجي في شهر ماي 1995م.
وقد جاء هذا التحقيق متناقضًا بشكل جليّ فيما يخصّ بعض النقاط، الشيء الذي أدى بكثير من منظمات الحقوق الإنسانية، كمنظمة العفو الدولية (Ammesty International)، ومنظمة (Human Rights Watch)، وكذا منظمات حقوق الإنسان الجزائرية ومحامين جزائريين إلى انتقاده بشكل لاذع.
وقد فرّطت اللجنة حين أغفلت أهمّ نقطة في التحقيق، وهي كيفية التدخّل مع نوع الأسلحة المستعملة، حيث تحدّثت اللجنة عن « الهجوم » في بضعة أسطر، وبالتالي فإنّ التحقيق لم يُوجّه اهتمامًا يُذكر لمعرفة حقيقة الملابسات التي اكتنفت وفاة أكثر من 100 شخص (حسب الرواية الرسمية)، كما لم يتعرّض التحقيق لبحث أهمّ مسألة في الحادث ألا وهي ظروف المعتقلين.
وقد صرّحت السلطات والمرصد الوطني لحقوق الإنسان في عدّة مرات بأنّ عددًا قليلًا من المساجين كانوا مسلّحين (كان بحوزتهم 4 مسدسات وثلاث قنابل يدوية، واحدة لم تنفجر والثانية انفجرت في يد السجين الذي جُرح، والثالثة التي يبدو أنه لم تنفجر والتي أُبديت في التلفزة الوطنية)، وقد كان هؤلاء السجناء محلّ هدف العدد الكبير من المساجين نحو 96 سجينا وعضو من قوات الأمن بعد تدخّل قوات الأمن!
كما أنّ العدد الإجمالي للجرحى هو 12 من بينهم 5 تابعين لقوات الأمن. وهذا يطرح العديد من الأسئلة حول العدد غير المتجانس بين القتلى والجرحى، كما جاءت رواية الأحداث في تقرير اللجنة متطابقة تقريبًا مع ما ذكرته السلطات فور وقوع الحادث. ورغم وجود ما يقرب من 1500 معتقلا في سجن سركاجي إبّان الاضطرابات، فقد اكتفت اللجنة بإجراء مقابلات مع عشرة معتقلين فقط، وكان معظم المستجوبين قد أدلوا بشهادتهم في مقابلات أجراها التلفزيون الجزائري بعد بضعة أيّام من الحادث.
وجاءت أقوالهم مطابقة لما ذكرته السلطات، إلى جانب ما أشارت إليه بعض المصادر إلى أنّ المساجين أُجبروا على الشهادة تحت الضغوطات، وكان في مقدور اللجنة استجواب أكبر عدد ممكن من المساجين الذين شهدوا الأحداث.
وذكر تقرير المرصد الوطني لحقوق الإنسان أنّ قوات الأمن « فضّلت عند قيامها بإخماد التمرّد عدم استخدام القنابل المسيلة للدموع، وذلك حتى لا تحدث حالات اختناق، خوفًا من عدم تمكن المعتقلين من الوصول إلى فتحة التهوية »، لكن حسب المعتقلين الذين كانوا بعيدين عن المكان الذي جرت فيه الأحداث، فقد تضّرروا من فعل هذه الغازات.
كما أن التقرير لم يُفسّر السبب الذي من أجله لجأت قوات الأمن إلى استخدام القنابل اليدوية والذخيرة الحيّة، ممّا أسفر عن سقوط هذا العدد الكبير من القتلى والجرحى بين المعتقلين.
وبذلك لم تقم اللجنة التي أجرت التحقيق وطبقا للمهام التي سطرتها مسبقًا بالإجابة على الأسئلة المهمّة حيث لم تحدّد إذا ما كانت قوات الأمن عند لجوئها إلى استعمال القوّة أثناء التمرّد، طبقت القانون الخاص بالمسؤولين عن تطبيق القوانين (قرار الأمم المتحدّة رقم 34/169 المؤرخ في 17 ديسمبر 1979م، ولاسيما المادة « 3 » منه) وكذا القانون الجزائري!
كما لم تقم اللجنة بمعاينة جثث القتلى، أو الأسلحة المستخدمة ولم يتمّ على الإطلاق تشريح الجثث أو فحصها بمعرفة خبراء المقذوفات.
هذه الاختبارات كان من الممكن أن تكون لها أهمية رئيسية لمعرفة الظروف التي قُتل فيها المساجين، وخصوصًا كانت تسمح بمعرفة، كم عدد القتلى الذين أُصيبوا برصاص قوات الأمن، أو كم عدد الذين قتلوا بإلقاء القنابل اليدوية من طرف قوات الأمن. هذه المعلومات مهمّة أكثر من التي صرّحت بها السلطات بأنّ السجناء قتلوا من طرف سجناء آخرين بالسلاح الأبيض (السكاكين).
وفي الصفحة 25 من تقرير اللجنة ذكرت هذه الأخيرة « … لم يتمّ أجراء أي تشريح للجثث… » وقد برّرت ذلك مضيفة « سواء تعلقّ الأمر بجثث الحراس المذبوحين أو السّجناء الرّهائن أو السجناء المتمردين لأن الأسباب المؤدية إلى الوفاة كانت معروفة مثلما أوضحت ذلك النيابة العامّة لأعضاء اللجنة ».
وقد أثارت منظمة العفو الدولية عدّة أسئلة في مقابلاتها مع أعضاء اللجنة حول الأحداث نفسها وحول التحقيق فلم تتحصل على التفاصيل اللازمة.
« وفي ما يتعلق بالدفن المستعجل للجثث بدون أن يجرى عليها أي تشريح والسبب الذي من أجله لم يقم المرصد الوطني لحقوق الإنسان (ONDH) بطلب بحفر قبور الضحايا واستخراج الجثث (Exhumation) حتى يتمّ فحصها، أجاب أعضاء لجنة التحقيق قائلين بأنّ ليس من الضروري تطبيق التشريحات للجثث بما أنه معلوم بأن المساجين قد أجهز عليهم، رغم أنّه جاء في التقرير بأنه ثمّ استعمال القنابل اليدوية والسكاكين »!
« وفيما يخصّ السؤال المتعلق بمعرفة عدد الجثث التي كانت في حالة حسنة وكم عدد الجثث المشوّهة غير تلك التي تحتوي على جروح بسبب الرّصاص يُضيف عضو من أعضاء اللجنة أنّ معظم الضحايا أصيبوا بجُرح رصاصة في الرأس. إنّ ممثلي المنظمة عبّروا عن تفاجئهم الذي يوحي لهم بالتفكير بأن المسجونين قد قتلوا عمدًا! صرح عضو في اللجنة بأن المساجين يُحتمل أنّهم قد أصيبوا بحوالي اثنين إلى ثلاث رصاصات جارحة ».
وفي الصفحة 25 ذكر تقرير لجنة التحقيق للمرصد الوطني لحقوق الإنسان ما يلي:
« تمّ تصوير جميع القتلى من السجناء وأخذ بصمة أصابعهم من طرف مصلحة الإنابة التابعة للشرطة القضائية. وقد أعطي لكل جثة رقمًا يتناسب مع ملف يحتوي إضافة إلى الصورة وبصمات الأصابع، شهادة إثبات الوفاة وشهادة طبية وصفية ».
« وبالمثل فقد ذكر رئيس المرصد الوطني لحقوق الإنسان لمنظمة العفو الدولية خلال زيارته إلى لندن في أفريل 1995 أنّه قد التقطت صور فوتوغرافية لكلّ جثة وسجلت بصماتها قبل دفنها.
وفي جوان 1995 التقى مندوبو منظمة العفو الدولية مع أعضاء لجنة التحقيق التي شكلها المرصد الوطني لحقوق الإنسان في الجزائر، وطلبوا نسخًا من صور الجثث والشهادات الطبية الخاصة بها، ولكن أعضاء اللجنة قالوا إن الصور والوثائق الأخرى ليست بحوزتهم وإن كانوا قد اطلعوا عليها عند إجراء التحقيق.
وفي ماي 1996 قام مندوبون من منظمة العفو الدولية، وطلبوا مرّة أخرى من رئيس « المرصد الوطني لحقوق الإنسان » إمدادهم بنُسخ من الصور الفوتوغرافية، فأجاب بأنّه ليس لديه علم بوجود أيّة صور من هذا القبيل!
ولما نوّه المندوبون إلى أنّ تقرير المرصد الوطني لحقوق الإنسان الذي وقع عليه رئيسه بوصفه مقرّرًا للجنة التحقيق قد أشار إلى وجود هذه الصور قال إنه لا يذكر شيئا عن وجود مثل هذه الصور!
كما التقى المندوبون مع عضو آخر في لجنة التحقيق فذكر أنه لم يشاهد هذه الصوّر قطّ، رغم أنّه صرّح لمنظمة العفو الدولية في جوان 1995 بأنّه اطلّع بنفسه على الصور الفوتوغرافية وأبدى تعليقات عليها، وطلب وفد المنظمة الحصول على نسخ من هذه الصور من وزارة العدل، ولكن دون جدوى.
وهكذا فقد جاء تقرير المرصد الوطني لحقوق الإنسان متناقضًا بشكل جليّ وهو الأمر الذي يُعزّز المخاوف القائمة من احتمال ألاّ تكون لهذه الصور وجود أصلاً.
بذلك لم يُسمح لعائلات ومحامي الضحايا ولا منظمات حقوق الإنسان الدولية أو الجزائرية الاطلاع على الصور أو حتى الحصول على أيّ نسخة طبق الأصل.
ونتساءل اليوم كيف لم تقم لجنة التحقيق بطلب استخراج الجثث، وتشريحها رغم أن عائلات الضحايا ومحاميهم قد قاموا بطلب استخراج الجثث وفحصها.
وفي سؤال لأحد المحامين حول المرصد الوطني لحقوق الإنسان ذكر ما يلي:
« إنّ المرصد الوطني لحقوق الإنسان (ONDH) أصبح يُدافع عن السلطة، (محامي السلطة) في تبرير تصرفاتها وإضفاء الطابع لقانوني لكلّ أعمال مؤسسات الدولة، عوض أن يهتمّ بشكاوي المواطنين « .
كان من اللاّزم أن يتصف أي تحقيق بالموضوعية والأمانة في نقل المعلومات بدون حساسيات سياسية أو غيرها، حتى يتجسّد مبدأ إعلاء حقوق الإنسان على أكمل وجه!
التضليل الإعلامي
إلى جانب التدخّل المميت لمختلف قوات التدخل أثناء مجزرة سركاجي، والدور الذي لا يقل جرمًا لجهاز القضاء، التحقت بهما الآلية الإعلامية، من خلال التحقيق المتلفز، المخلّ بكلّ قواعد التحقيقات الواجبة، ثم التغطية المضلّلة للصحف المعروفة بولائها المطلق للطرح الاستئصالي والتي تميّزت على مرّ السنين بالتحريض على الانقلاب وتبريره بل واعتباره إنقاذًا للجمهورية، قامت هذه الوسائل، وخاصة منها يوميات الوطن (El Watan) وليبرتي (Liberté) ولوماتان (Le Matin) ولوتونتيك (L’Authentique)، بالترويج للرواية الرسمية، واتهام المعتقلين بالتسبّب فيما حدث، بل وصل الحد بصحفية لومتان بتاريخ 23 فبراير 1995 إلى التباهي رغم هول المجزرة والدماء التي سمكت، من خلال عنوان بارز، جاء فيه « لقد تم القضاء على المتمرّدين » بينما كتبت صحيفة لوريزون (L’Horizon)، مقالة لا تقل وقاحة وإجرام، تقول فيها « تمرّد سركاجي خلّف 5 قتلى من بين الحراس » في تجاهل تام وسمج لاغتيال 105 سجين أعزل، فضلًا عن عناوين ومقالات وتضليل عمّ كافة هذه الوسائل بما يبيّن مدى ارتهان هذه الأبواق الإعلامية وخضوعها المطلق للنظام الحاكم.
خلاصة
سير الأحداث وتكشّف الحقائق وفق الشهادات المختلفة للناجين من المجزرة يظهر أن كل شيء تمّ إعداده بدقة لخلق ذريعة وجوّ من التمرّد يبرّران تدخلًا دمويًا.
الإعداد والتنفيذ والفشل المبرمج لـ « محاولة الفرار »، وكذلك « التمرّد » المدفوع دفعًا إليه، نتيجة الظهور المفاجئ لرجال مقنّعين المكلفين بمهمّة محدّدة تتمثل في الفتح بالمفتاح أو بتحطيم زنازين السجناء المحكوم عليهم بالإعدام، ثم اختفاؤهم فجأة دون ترك أثر، تشكّل أكثر البراهين وضوحًا وافتضاحًا على ذلك. لكن لم تتوقّف الآلية التي بدأ العمل بها، رغم « العراقيل غير المتوقعة » التي سبّبها التواجد في باحة السجن، لكلّ من بومعرافي، القاتل المزعوم لمحمد بوضياف، والحارس مباركي، الذي قِيل إنه كان له دورًا مهمًا في الأحداث. حتى وجود الشرطة والأجانب المعتقلين لم يوقف شيئًا. وفي هذا الوضع تمّ الشروع في الهجوم بعدما تم انتشال بومعرافي والحارس، ورفعهما بالحبال إلى سطح السجن، قبل أن يصيح النائب العام « شيء عظيم! »
يُظهر مسلسل الأحداث كما أعيد تشكيله من خلال الشهادات المختلفة للناجين أنّ الأمر يتعلّق فعلًا بمشروع استئصال تم تنفيذه ضد السجناء السياسيين، الذين كانت جريمتهم الوحيدة، أنهم يتبنّون آراء مختلفة. بعد المذبحة، ظهر رجال مقنعون، ولكن هذه المرّة بصحبة مدير السجن، لاقتياد المعتقلين الذين تم سحبهم من زنازينهم باتجاه أماكن سرية.
كما تكشف هذه الشهادات بوضوح أن الفيلم الوثائقي التلفزيوني الذي أنتجه النائب العام شخصيًا كان يهدف إلى تشويه الحقائق، وليس إلى إثبات الوقائع بشكل مستقل ونزيه، وذلك من خلال فرض على المعتقلين، رهائن إدارة السجن، إدلائهم بشهادات تؤكد الأطروحات الرسمية.
ختاما، ألا يحق لنا التساؤل عن الغرض من التحقيق في مذبحة سركاجي من قبل الجهات القضائية المتورطة فيها؟ ماذا يمكن توقّعه من نتائج هذه التحقيقات الصادرة عن هيئة تشكل القاضي وطرف في هذه القضية؟
تعلم كافة أسر الضحايا بأن هذا لن يعيد لهم ذويهم القتلى، لكنهم مقتنعون بأنه من خلال كسر جدار الصمت على مثل هذه الانحرافات لدور الدولة، وتوظيف أجهزتها، سيساهمون بقوة في ضمان عدم تكرار مثل هذه الأعمال اللاإنسانية وغير المشرفة، وسيحصن الجزائر ويحميها من الانزلاق بشكل خطير إلى عالم الرعب حيث يشكّل القمع والتضليل الإعلامي والتعذيب، الوسائل المفضّلة لإدارة شؤون الدولة.
كما أنهم مقتنعون بأنّ الحقيقة حول هذه القضية ستعمل على خلق ظروف مواتية لظهور سيادة القانون.
في مواجهة هذا الوضع البغيض، الذي يذكرنا بجرائم الحرب التي لا تسقط بالتقادم بموجب القانون الدولي، تُوّجه أسر الضحايا ومحاميهم ونشطاء حقوق الإنسان نداءً عاجلًا إلى الضمير العالمي والمنظمات الإنسانية وحقوق الإنسان للمطالبة بضرورة تشكيل لجنة تحقيق محايدة ومستقلّة من أجل المساهمة في إظهار الحقيقة كاملة.
هل ستأخذ العدالة مجراها يوما ويُتابَع كل من توّرط في هذه المجزرة ويعاقب على جرائمه؟ لا شك في ذلك الحقيقة، تفرض نفسها دائما، مهما طال الزمن.
المصادر، مترجمة إلى العربية من:
Algeria-Watch
Livre blanc sur la répression en Algérie (1991-1995)