مصطلح “العصابة” والانحباس الدلالي في القاموس السياسي الجزائري

Jun 23, 2022

بشير عمري

https://www.raialyoum.com/

إذا كان التاريخ بزخم أحداثه وحوادثه وأحاديثه خاصة، هو مصدر غذاء القواميس والمعاجم السياسية الكبرى، فإن هاته الأخيرة لتظل في المقابل أهم مصادر صناعة وإعادة صناعة التاريخ ومعاودة تفعيل اشكالاته فهما ووعيا وتفعيلا إذا ما استجدت وتجددت في المضامين والمفاهيم واغتنت بجهود العقول الراسخة في مَعْلَمة النشاط السياسي الإنساني بما يتيح لحركة التغيير أن تأخذ طريقها إلى التجسيد.

وقليل من الخاصة فضلا عن العامة من يولي أقاصي الأهمية لمسألة اللغة وقواسمها وقوامسها في دعم حركة التغيير وتحقيق مبدأ التجاوز السياسي في مسار نمو المجتمعات، إذ غالبا ما تختطف اللغة ويغتصب الخطاب في السياسة وتُساق هذه المجتمعات في حركتها وحراكاتها لا حيث تشتهي هي بل إلى حيث تريد القوى أو الجماعات المناهضة للتغيير، فباللغة يُرتسم التاريخ وبالخطاب ينتصر للسياسة إما لهذا الطرف أو لذاك، وهو ما سنسعى لفهمه من خلال معضلة التغيير في الجزائر عبر مصطلح “العصابة” الذي طغى على المسمع العام وانصرم من المعجم الخاص.

يذكر الجميع كيف أن مقالات وبلاتوهات التحليل التي واكبت ثورة الحراك الشعبي بالجزائر وهي تطيح بسلطان بوتفليقة المريض إذ ذاك وإرادة حاشيته في التمدد في زمن الحكم المنفصل عن زمن الوعي الشعبي المتنامي، من خلال المطالبة بعهدة (ولاية) خامسة، كانت (المقالات والبلاتوهات) مفتونة بمُسمى “الحراك” ومستغرقة في تفكيكه الاصطلاحي وتصويبه اللغوي بين قائل بكسر “حائه” ومقاتل من أجل نصبها ومتفقة على ضرورة أن ينفذ إلى القاموس السياسي الأكاديمي أو الإعلامي لكونه شكل من أشكال الثورات على الحكم وعلى الظلم.

ونسي هؤلاء أن “قومسة” التاريخ في شاكلته واشكالاته السياسية إنما يتأسس على الجزئيات المائزة والمتميزة بخلاف المشترك من الظواهر والمظاهر التي قد تلبس أو تشترك في الاصطلاح الكامن وتحمل الدلالات المعجمية الجاهزة، وهنا كان أولى بمن تناقشوا وتناوشوا بخصوص التأسيس المعجمي للحراك كظاهرة ثورية، أن يختصوا في مرتكز اهتمامهم اللغوي بالحالة الحراكية عما تداعى عنها من هوامش كبرى تحيل كلها بأبعادها إلى نوافذ أخرى من أسئلة التاريخ السياسي بالجزائر وأهمها مصطلح “العاصبة” التي لا تزال تفاعلاتها واقعة في السياسة من خلال آلية القضاء.

فبقطع النظر عن البعد اللغوي للكلمة “العصابة” والتي لا تعني في الدلالة بالضرورة جماعة أشرار، فإنها في المسألة الثورية الحراكية تعد علامة فارقة إذا ما تم تحرير اللغة والخطاب السياسي من قيود وإرادة التوجيه الإعلامي الرسمي، الذي يسعى بكل أدواته وأبواقه لحسر وحصر تمددهما في الوعي الشعبي.

فعند التضمين القاموسي للسياسة بالجزائر لمصطلح العصابة، يحدث الانزياح الدلالي، بوصفه نعت لجماعة أشرار سياسية معينة في حقبة معينة لنظام معين دائم ومستمر في الحكم وبالتالي يتحقق التمدد في فهم العصابة هاته بكونها النتيجة وليس الأداة، من هنا يعاود سؤال التغيير واشكالاته الانطراح مجددا ولا يتوقف وينتهي ومعه ينمحي وعيه لدى العامة.

كما أن “التقميس” المأمول لمصطلح “العصابة” من شأنه أن يفيض بالسياسة ومساراتها ومساربها عن التحيزات والتحديدات الاجرامية التي يراد من خلالها بتر الحراك من وعيه الثوري الخاص وبالتالي يحتجز أو يحول سيل السؤال ومجراه الطبيعي في العقل الوطني، ذلك لأن التغيير كحركة مطلبية شعبية سياسية بالأساس عبرت عنها الجملة الدارجة الشهير “يتنحاو قاع” (يتنحوا جميعهم) يفقد جدواه الاجرائي وعمقه الثوري حين تحاكم “العاصبة” قضائيا دون المحاكمة السياسية إذ يحدث هنا الشرخ العميق في الوعيين العام والخاص بالمسألة الحراكية حين تتوقف الإدانة الثورية للعصابة كـ”ذات” ولا تمتد إلى مؤدى ظهورها وولادتها كـ”موضوع”.

الخلاصة هنا هي أنه إذا كان بالوسع العثور على مشترك دلالي للحراك في قواميس السياسة ومعاجمها حيث تتقاطع التجربة الثورية البشرية عبر التاريخ، فإن الأمر غير كذلك في نتائج هذا الحراك، وأهمها مصطلح العصابة حيث أدانت المنظومة نفسها بنفسها حين نعتت جزء منها بهكذا اصطلاح محيلة بذلك الضمائر والعقول إلى سؤال الميكانيزم العام الذي أنتج هاته “العصابة”.

فإذا كان والحال هذه تقميس (من القاموس) الحراك مثلما تحمله رغائب البعض، قد يتعثر اجرائيا باعتباره خلافا للدال مشتركا إنسانيا من حيث المدلول (انتفاضة، ثورة، قومة) ما يجعله (التقميس) يقف عند مستوى تأريخ الحدث، فإن تقميس مصطلح العصابة يقفز بالحراك إلى حيث المدلول كونه يؤرخن الحدث ولا يقف عند محدود الجهد في تأريخ القاموسي له، ما يعني أن هذا المصطلح يعد بمثابة نافذة محيلة إلى فصول أخرى من معضلة الحكم، للاستمرار في البحث أن طبيعة النظام السياسي بالجزائر بوصفه منتجا للعصب، هذا ما تكشفه أزمة اللغة والخطاب السياسي بالجزائر وعجز النخب في محطات القبض على الحقيقة الوطنية من خلال رصد المشهد خارج زوايا التحييز والتحجيم والتعتيم التي يمارسها الخطاب الرسمي.

كاتب  جزائري