المثقف العربي اليوم أو العقل “القابل للاكتراء”! .. إبراهيم عيسى نموذجا

0
836

https://www.raialyoum.com/

بشير عمري

لا مشاحة في أن الديمقراطية وعيا وممارسة كانت وتظلها أكبر من أن يستوعبها دفعة واحدة الانسان العربي المغيب لقرون عدة عن شروط النهضة، وأن سبيله لاكتمال هلاله الديمقراطي يفرض ويفترض بلوغ حد أكبر من تراكم التجربة عبر مسارات عدة من النضال الطويل والتفاعل المستمر بين الشعب والنخب حتى تنكمش مساحة الجهل والضلال السياسي ويتحقق بالتالي أهم عنصر من شروط النهضة تلك وهو الإرادة الفعلية والفاعلة في التغيير الجماعي في المجتمع.

لكن المأسوف عنه في هذا الفضاء المسمى بـ”العالم العربي” هو أن نخبه لا تكاد تتفق مع واقع المجتمع وتمضي على ايقاعه وريتمه، إنما تريد إما اقتياده أو اغتياله عبر إعادة اركاسه في حمأة الطغيان من خلال تحريك بناه الفكرية والثقافية القديمة بحسبانها مسئولة عن وضعه وليس الطغيان السياسي والطحن الاقتصادي.

وأبرز من يكرس هاته الحالة اليوم هم مثقفو البلاتوهات في مصر وعلى رأسهم الكاتب إبراهيم عيسى الذي يبدو أنه لم يعد مهموما ولا مهووسا بمسألة تطور نسق الحريات في مصر كمشروع طلائعي أو هكذا يفترض من نخب عرب ما بعد ربيع بلدانهم الشهير، إنما صار همه هو الإدانة الإعلامية للتراث الفكري الإسلامي والتغطية والتعمية على واقع سياسي مرير تقوده نخب انقلابية باعت الأرض والعرض في مصر مذ انقلبت على الشرعية قبل قرابة عقد من الزمن.

وبهكذا تموقع فيما بعد قيام ثورة الـ25 يناير التي أنارت أزمنة مصر السياسية، يكون إبراهيم عيسى ومن شاكله من كتاب ومثقفين تميزوا فيما قبل الثورة بما أنتجوا أدبا وصحافة من أعمال واعدة حسب الجميع وقتها أنها ستستمر لتكون إضافة للعقل العربي في مسعى استنهاضه واستحثاث رغائب الحياة الكريمة والواعية فيه، وإذا بها تستنكف وتأبى أن تستكمل طريقها النضالي أو على الأقل تظل على حال طروحاتها الأولى، بل اختارت الردة الفكرية بكل أبعاد المصطلح اللغوية والتاريخية والاصطفاف إلى جانب الظلم بحجة الخوف من الظلام (الجهل) فعادت تستجدي قوى الاستبداد وتضفي عليها طبائع الوطنية والحداثية وتراها طوق النجاة من مجتمع يموج في بحر الظلمات والتخلف الديني والدنيوي !

هكذا نموذج من المثقف ليسه بالضرورة حامل لمشروع التغيير إنما حالم به شأنه شأن كل فرد أو مواطن عربي مهوس بورديات التاريخ بعدما سُد بصره وصُدت بصيرته إلا على نافذة الانتظار يطل منها على “مهديه المنتظر” ليخلصه من سوء حاله وموقفه من نفسه ومن شر الاخر في طاحونة التاريخ.

تلاقي في مستويات الموقف من التاريخ بين العامة والخاصة في معترك الثورة وربيعها العربي، يؤكد أن الإفلاس كان أكبر بكثير مما كان يعتقد في فترة حكم الطغاة وأسرهم وحواشهم، كونه كشف عن نوع من المثقفين القابلين إن لم يكن للشراء فللكراء، كراء الكلام والاقلام لتضليل الشعوب عن سُبل المعارك الرئيسة المتوجب خوضها والحسم فيها للخلاص من التخلف والقهر السياسي والاقتصادي.

لقد دهشت مرة من سماع إبراهيم عيسى وهو يرغب المجتمعات العربية في التحديث وتجاوز التراث المعطل للانطلاق نحو الأفاق الإنسانية المثلى وبلوغ مستويات تطور روادها في الغرب والشرق، يستشهد في ذلك بمقولة للملك الراحل عبد بن عبد العزيز وهو – حسبه يلوم جمود العقل الديني السلفي في السعودية – وفجأة أصبح الملك عبد الله داعية للتحديث والحداثة وعلماؤه السلفيين دعاة للتضليل والتقليد!

لكني بعد هذا الاسفاف والتساقط المقصود، لم أفجأ بالمرة من موقف إبراهيم عيسى من عودة عائلة الطاغية السابق حسني مبارك وولي عهد عرشه المنسوف مشروعه بثورة خالدة (25 يناير 2012) وهو يسهم مجددا مع الاعلام المضلل في تسليط وبوسع غير عادي دائرة الضوء عليها بل وتبرئتها من كل تهم الظلم والفساد والاستبداد لأزيد من ثلاثة عقود، الذي ظل هو لسنوات يدعي مواجهته في مشهد مخز للذين لم يعرفوا حقيقة إبراهيم عيسى المثقف القابل للكراء موقف صادم من قلم كان وعدا وصار خبرا.

كلا لم يصر فقط خبرا وإنما صار مسخرة في جميع المواقع والصفحات التي ترصد هذا النوع من التجارة الإعلامية التي تدنو من ان تستحيل إلى دعارة فكرية وثقافية تمارسها نخب أضحت حلا من ماضيها ومن كل ما يربطها بطبيعة وظيفتها الطلائعية في المجتمع، وهكذا راح البعض في الفضاء الافتراضي ينشر فيديوهات تحمل مواقف إبراهيم عيسى في اثناء الثورة وفيما بعدها، تناقضات وساقطات لا تنم عن تطور في الفكر والرأي لهذا الكاتب وإنما عن تورط في الواقع واقع فيه يؤكد قبوله القابلية للكراء، كراء قلمه وعقله ورصيده من اللغة من أجل إتمام مشروع الثورة المضادة وإعادة المجتمع بكل وسائل القوة بما في ذلك القوة الناعمة (الاعلام والمال) لحمأة ومستنقع التخلف والاستبداد واستحمار الشعوب.

فمن ادعاء مقاومة الاستبداد الذي مارسته بعض النخب من شاكلة ابراهيم عيسى وجد العربي أمام الاستبداد بالمقال كتابة أو قراءة، عبر اعلام عكاظي يحضر على بلاتوهاته شعراء بلا قوافي ولا أوزان يلقون حمولات دجلهم ونفاقهم عبر ايتعراض لقدراتهم اللغوية في أذان من ينظر ويستمع اليهم ويتبعهم من الغاوين والغافلين، لتكشف ثورات الربيع العربي بأن سهامها لم تخطئ الهدف بإسقاطها للطواغيت وعوائلهم وعملائهم وإنما عرت ستائر عدة كانت تحجب الرؤية إذ تظهر بأن الطاغية كان يستأسد ويستبد فقط بالسلاح والاستخبارات واتضح أن نموذج المثقف القابل للشراء أو الكراء هو أخطر وأضر طغيانا، كونه مستمرا في المجتمع كحاجة بنيوية ومسلح بسحر الكلمة التي تخون الحاكم وحواشيه وأن الثورة لتكتمل دائرتها في حاجة إلى أن تسهم (سهام) نبالها وقذائفها هذا النموذج البائس من المثقفين  !

كاتب  جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici