تطور فكرة التعددية لدى التيارات الاسلاموية بالجزائر

0
1251


Dec 23, 2022

https://www.raialyoum.com/

بشير عمري

تبعا لسابق حديثنا عن أزمة الوعي التعددي مفهوما وممارسة في الاجتماع والسياسة الجزائريتين، يجبرنا السياق هنا لمحاولة المعضلة بشكل أعمق، معرفة تطور هذا المفهوم عمليا في أحد أبرز تيارات جزائر ما بعد أكتوبر 1988 ونعني به طبعا التيار الاسلاموي ممثلا في قطبيه الرئيسين، المغالب بزعامة جبهة الإنقاذ الإسلامية وحركة المجتمع الإسلامي “حماس” التي تحولت إلى حركة مجتمع السلم (حمس)، لنطرح مبدئيا السؤال التقليدي كيف عبر التياران في لحظة نشوئهما الأولى عن نفسيهما وسط موزيك الأحزاب والأفكار؟ وكيف وقف من بعضهما البعض ثم من الآخر؟ وإلى أين انتهيا بعد سقوط التجربة الذاتية لكليهما والتجربة الديمقراطية عموما بالجزائر؟

ثمة في البدء حاجة لتحديد المفاهيم وضبط الفاعل في المسألة التعددية الأولى، حتى يتسنى لنا الصول إلى المبتغى من هاته السطور دونما سقوط في الأحكام المسبقة ومجانبة الموضوعية اللازمة في مثل هكذا مواضيع امتزجت فيها السياسة بالتاريخ، المقدس بالمدمس،  واختلطت فيها الوطنية بالأممية، واستسلمت الغايات للوسائل.

فجبهة الإنقاذ الإسلامية كانت حزبا شعبيا شعبويا بقيادة مختلفة المسار الدعوي تمتح من عديد الاتجاهات داخل الحركة الإسلامية، وهو ما جعل القرار السياسي فيها يتعلق أساسا بالمؤثر أكثر من الأثر أي بالزعيم أكثر من الخط، على اعتبار أن الخطوط (المتنوعة) ستتداخل في اللحظة الاستثنائية وتفرض رؤاها حيال الوضع وفق تكوين وانتماء كل صوت ممثل داخل الجبهة.

في حين كانت الأمور شبه محسومة لدى الطرف الثاني أي حركة “حمس” ذات الاتجاه الإخواني، تمضي سلوكا وخطابا وفق الابجدية الميكانيكية لهذا التيار، الذي يعتبر نفسه الحامل الأول لحقيقة الدعوة منذ قرن مضى ومجدد أدواتها وآلياتها ومحدد بوصلة النصر والتمكين، جاعلا من السياسة خطابا دعائيا ومن النشاط الاجتماعي حقلا للممارسة.

من خلال هذين المحددين تتضح لنا الصور وهي أننا بإزاء مجموعتين متناقضتين لتيار واحد، الأولى (جبهة الإنقاذ) تشعبن الدين عبر السياسة والأخرى (الاخوان) تدين السياسة عبر الاجتماع.

بيد أن الأمر ما لبث أن تطور بسرعة فاقت طبيعة الأشياء، وذلك حين تخلى الاخوان في قطبهم الرئيس عن خطهم الحركي وقرروا الالتحاق بالمسرح السياسي والسباحة في موجه المتلاطم مع الحرص على الإبقاء على عنصر الاختلاف والتخالف مع جبهة الإنقاذ عبر تقديم بديل سيتضح فيما بعد أنه كان وسيلة بلا غاية وهو المطب الذي ستسقط وتوأد فيه الحركة الوليدة (حمس) .

اشتعل أوار الحوار الساخن بين الجماعتين وسال حبر سياسي وفقهي كببر لا يزال لم يلقى العقل الاسلاموي المستنير الذي يعيد قراءته وإخراج مثالبه ومحاسنه للناس، من خلال النقديات الفقهية والسياسية التي كانت تنشرها صحف ومجلات التيارين، المنقذ، البلاغ الهداية من جهة الانقاذيين والنبأ والمجتمع في طرف الحمساويين، والملاحظ هنا مثلا كيف انتقل القلم بعلي بن حاج من نقد الديمقراطية دينيا إلى نقد السياسة عند رده على دعوة التحالف الإسلامي التي كانت الحركة الوليدة (حمس) قد دعت اليها، وهذا عبر مقاله الشهير “فصل التخالف في قضية التحالف” فكما لو أن سياقا جديدا قد انبجس فرض على الشيخ نزالا قليله فكري وكثيره فقهي داخل التيار الواحد.

حالة من الغليان الحركي تكشف عن مدى بعد هذا التيار عن مفهوم الوطنية وعناصرها التاريخية وأهمها التعددية الفكرية من خلال رغبة كل طرف لضبط الأخر والحاقه بفكرته ورؤيته ومنطلقه الحركي، فما بالك بالأخر من خارج الحوزة أي من خارج التيار الاسلاموي.

انتهى الجدل النظري في السياسة فقهيا وفكريا بدخول الانقاذيين في المواجهة المسلحة مع النظام وذلك إثر الغاء المسار الانتخابي الذي توجهم على رأس التعددية السياسية في الجزائر في 26 ديسمبر 1991، ومن وقتها حمل هؤلاء ميسم وأونعت المغالبين، في حين قرر إخوانيو حمس مواصلة المشاركة في العملية السياسية الموجهة من قبل السلطة، وسمو بالمشاركين.

ولما أن وضعت الحرب أوزارها وزال بعض من غبرها، تبين أن كلا التيارين خرج خاسرا من كل الجوانب الدعوية، السياسية والمعرفية حتى، وطغت المواقف الشخصية من الأحداث بعد إذ نضجت أكثر من طغوى صوت التيار فكرا ورؤى.

فحمس التي استبدلت الغاية بالوسيلة عبر اختيارها لنهج المشاركة بعد أن استحالت هاته الأخيرة من تكتيك إلى استراتيجية، حيث لم يحضر لديها المخطط “ب” ضمر فيها الفكر واستقرت في منطلقها الأول واضاعت بالتالي هويتها في مسرح السياسة، فهي تؤكد أنها اختارت الوطن في لحظاته الحرجة على حساب الدعوة، ومع ذلك لم تتقاطع مع التيار الوطني بوصفه تيارا سياسيا مكتمل البنى و الواضح المساق، كما أنها لم تعد إلى صفة منطلقها الأول الاجتماعي الثقافي الذي كانت قد أفردت له مؤسسة بذاتها (الإصلاح والإرشاد) واستحالت بذلك إلى أداة انتخابية تخدم بانتظام النظام في مسعاه الدائم لكبح إرادة التغيير من خلال تكريس ديمقراطية الواجهة.

في حين بقي التشتت يطبع التيار المغالب، لكن وعيا كبيرا باستحالة التغيير خارج نطاق التعددية الحقيقية صار يلمع من بعض أصواته، لا تطور فكرة التعددية لدى التيارات الاسلاموية بالجزائرسيما من أولئك الذين تفاعلوا ببينة مع محنة هذا التيار، فرابح كبير القيادي في المنفى أدرك بأن الديمقراطية التي كان يكفرها علي بن حاج وينتقدها على صفحات جريدة الحزب “المنقذ” هي التي أنقذته (رابح كبير) من التصفية هناك في المانيا وهذا حين انصفته العدالة وضيفته الحكومة، فنزع عنه طاقيته “الشياشية” والقميص، ولبس ما يلبس هنالك الناس، واعترف بأن حقوق الانسان ليست تلك التي كان يعيشها في الجزائر ولا التي كان يحملها مشروع حزبه (جبهة الإنقاذ).

أما الزعيم الثاني للحزب على بن حاج فقد صار مؤمنا أكثر من عديد الديمقراطيين بأن الوطن أوسع من أن تشمله فكرة جماعة بعينها بل اقتنع أن هذا الوطن يعاني أصلا من هيمنة جماعة بذاتها والتحق بالتالي بركب التعددية يطالب بالحرية للجميع، وعليه يتضح بأن الاخوان قد رسوا قبالة الباحة الوطنية دون أن يلجوها وما ينبغي لهم ذلك، وما تبقى من قادة الانقاذيين قد نزعوا عنهم منزع الأحادية البديلة عن أحادية النظام التي كانوا قد حملوها طيلة فترة العمل التعددي الذي أتت به أجداث أكتوبر الشهيرة.

    كاتب  جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici