موسم “الحرقة السياسية” بالجزائر.. أميرة بوراوي والقوارب الطائرة!

0
2531


Feb 10, 2023

https://www.raialyoum.com/

بشير عمري

أسبوع سياسي عاصف مر بالجزائر، لكنه متوقف عند حد الهرج والمرج الإعلاميين ولا يكاد قط يعدوهما إلى مستوى المواقف العملية التي من شأنها التأثير ولو بالجزء اليسير في عملية العودة إلى مسارات المطالبة بالتغيير والتحول الجذري والجدي على صعيدي الممارسة السياسية الحرة والديمقراطية الفعلية.

مثلما انتكست أيضا كعادتها أصوات وأقلام التحليل في رسم الصورة المثلى واللوحة الواقعية غير التجريدية لما استجد من أحداث كي يفهمها العامة والخاصة معا، وحتى لا يظل الحدث حبيس مطابخ القرار السياسي ومطاحن التأويل الإعلامي الأحادي.

فبعد الزوبعة التي صنعها سوء توظيف الوصف والتوصيف السياسي للكاتب الكبير سعد بوعقبة حين تناول بشيء من السخرية السياسية منطقة بعينها، قلبت عليه كل أصوات التنديد والتهديد ممن هم أجهز لممارسة التأويل الخاطئ والفهم الضيق للكلام السياسي بكل شساعة معانيه وغزير تعابيره وألفاظه، ما جعل بوعقبة يرتد على عقبيه ويعلن البراء مما سال وقال قلمه، ها هي ذي أميرة بوراوي الطبيبة “المعارضة” ذات الجنسيتين الجزائرية والفرنسية، تُخرج للعلن أوجاع الوطنية للعلن من جديد وتحرج السلطة في قدرتها على استيعاب الصوت المعارض، فما الذي يرسم هكذا مشاهد ملهبة ملهية عن صميم القضايا الوطنية المفصلية؟ وهل لا يزال الصوت المعارض أحوج ما يكن لعبور البحر كي يعبر عن نفسه في مسرح السياسة المسدول رداءه بشكل دراماتيكي في الجزائر مند سنين عددا؟

يجب الاتفاق على أن الديمقراطية لم يعد يصنعها الهروب الجسدي ولا التهرب الكلامي لنخب التغيير أو التي تزعم أنها كذلك وتناضل في هذا الاتجاه، والأمم التي فرضت نخبها المعارضة إرادتها وقادت مجتمعاتها إلى التغيير، هي تلك التي تلافت فكرة الهجرة “الحرقة السياسية” ولو اقتضى الحال أن تتحرق هي في مخافر الشرطة ومخابر السلطة.

فالمكان والإمكان السياسيين اليوم في ظل التحولات التي عرفتها كونية الاتصال والتواصل، لم يعودا بذلك الذي يفرض الهروب إلى المنافي للصدع بالرأي وقول ما يفضي إلى وعي المجتمع بواقعه وبآلامه وآماله، ذلك لأن سلطة الصورة والكلمة أضحت تفرض نفسها على سلطة المنع والقمع مهما حاول المانعون والقامعون فعله للحيلولة دون عبور أصوات الرفض إلى العقول الجرداء بالداخل أو الحقول المجردة بالخارج.

إنما هي حالة من الاضطراب في الرؤية لدى ما ينعت بالمعارض السياسي اليوم في الجزائر، بحيث صار في نشاطه يخلط بين سلوك الاثارة الاعلامية ومسلكية النضال السياسي الجدي الداخلي التي يتوجب أن يثبت فيها وعليها باعتبارها الخيار الوحيد لتحقيق التغيير المنشود الذي تبرز تلاويحه من خلف حجب التعتيم الإعلامي والسياسي لكل من ألقى السمع وهو شهيد على المشهد الوطني العام.

وشخصيا دائما أذكر قمة الشجاعة السياسية للرئيس الشيلي اليساري أليندي سالفدور الذي خيره عسكر الانقلاب للجنرال بينوشي بالانسحاب من القصر الرئاسي مع تسهيل مهمة خروجه إلى المنفى جوا هو وعائلته، أو الموت سحقا بالنار وتحت سلاسل وجلاجل الدبابات الامريكية الصنع، فسخر من التخيير ورد الاقتراح على اهله بالصمود والموت لا داخل وطنه ومجتمعه فحسب، بل داخل القصر الرئاسي كونه أمنة سيادية شعبية كلفه بصونها الشعب الشيلي ذاته، في قمة الوعي والممارسة للمسئولية السياسية والسيادية للسلطة، وسجاعة أدبية قل نظرها في حكايا وقضايا تاريخ صراع الحق مع الباطل.

المشكل لدينا كمجتمعات “هاوية” وغير “محترفة” بالمرة للسياسة، هو أننا ننتج نخب هاوية، متهاوية منحرفة، لا تحمل من الافاق والرؤى سوى اللغط الخطابي ولا نصيب لها من الحكمة والمعقولية التاريخية شيء، تعتقد بأن المنفى دوما ضروريا للإفلات من البطش ولفت انتباه الخارج إلى الحالة السياسية والاقتصادية للمجتمع.

فرغم مرور ثلاثة عقود على التحول “الشكلي” من الأحادية إلى التعددية لا يزال مجتمع السياسة لم يولد في الجزائر بالشكل الطبيعي الحقيقي ولا تزال ما تسمى بنخب المعارضة تسيء في تقديراتها وتخطئ في ادراك واستدراك قدراتها في معركة التعبير والتغيير لا لشيء سوى لأنها لا تريد أن تكون “شعبية” و “مجتمعية” بل لتكون “نجمية” يشار اليها بالتميز والمعرفة والبطولة عن مجتمع وشعب قابل للاستعمال السياسي.

فأميرة براوي هربت من “مجتمع السلطة” لأنها رفضت أن تكون في جانب “سلطة المجتمع”، فهي بذلك ليست معارضة للحكم فقط بل وللمحكوم أيضا، وهذا ديدن النخب الفوقية العاجية التي تفضل الأبراج العالية أو المنافي الغالية على الحضور وسط الطاحونة الاجتماعية وقول كلمة الفصل فيها وفق النسق التطوري لوعي الشعب وروحه الاجتماعية والمجتمعية.

من هنا تتجلى غربة وتيه نخب المعارضة السياسية في الجزائر، فهي غير مستندة على أسس مرجعية مجتمعية حقيقية، وغير متجذرة في حقول تعبيراته الشعبية، لذلك تظهر فقاعية صابونية تذروها الرياح وتحملها بعد كل نفخة سياسية دافعه من المجتمع إلى فيافي الوهم والسراب السياسي، وأي نخبة انقطعت عن أصولها الاجتماعية وخاضت أراض غير أراضيها في مسارها النضالي ستؤول حتما في جهدها وكدها وكيدها إلى الفشل الذريع، فشروط التاريخ تفرض هذا المنتهى بقوانينها الصارمة الصلبة، تلكم القوانين التي تغيب عن فكر النخب المعارضة أو التي تدعي ذلك في معتركات السياسة والاجتماع والاعلام الجزائريين.

وإذن، فالمشهد لا يزال قاتما قائما بذات انتكاساته الأولى، وسيظله كذلك ما لم تفهم عقول السياسة، أن “عبور الفكرة” إلى حيث يُراد لها أن تعبر، لم يعد في حاجة إلى “فكرة العبور” خلف البحار إلى حيث هدوء الديمقراطية والسيل الرقراق للنشاط المؤسسات في أمم قد خلت فيها معارك الحق السياسي بدمائها ودموعها، فالنضال الحقيقي من أجل التغيير هو ذاك الذي يقتضي الحضور وليس العبور للصوت الرافض للواقع والمناضل من أن أجل غد مشرق في سماء الجزائر وليس في سموات أشرقت فيها شموس الديمقراطية قرونا عدة.

كاتب  جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici