من الاستشراق إلى الكولونيالية.. أزمة مجتمعات القطيعة السياسية مع المعرفة

0
906


Apr 19, 2023

https://www.raialyoum.com/

بشير عمري

يحرص المؤرخ الفرنسي المختص في مستعمرات بلده براند لوغان، في كل مداخلاته بخصوص هذا الملف السياسي – التاريخي الثقيل، على الإشارة إلى دور اليمين واليسار الفرنسيين في تطوره معرفيا وسياسيا واستراتيجيا، وهذا من خلال إيراده الدقيق واللامتناهي لمواقف التيارين بإزاء أزمات فرنسا الاستعمارية عبر التاريخ، وإن كان لهكذا حرص من دلالة، فهو طبعا يدل على الاتصال المباشر للسياسة بالمعرفة والتاريخ في المجتمع الفرنسي بما يعني أن انتاج الفكر الاستعماري في سياق تطوره فيما بعد تصفية الاستعمار التقليدي، لا يزال قضية منظومة سياسية ومجتمعية وليس فئة، أو سلطة، أو مؤسسة لوحدها، في حين تبدو في الجهة المقابلة، المستعمرات تلك، غاططة في نومها الأبدي، تحاول من جهة ساسة معارضتها أن تعثر لها على شرعية وجود وخطاب خاص من دون أن تعيد قراءة الفكر الاستعماري بوصفه أصل الوجود المأزوم لبلدانها على كامل الصُعد، الهوية، الثروة، السلطة وغيرها من الإشكالات العالقة.

والسؤال الجوهري الذي ينطرح هنا أساسا هو لماذا تتطور الأسئلة المتعلقة بالاستعمار فكرا وممارسة بعد أزيد من نصف قرن عن تصفيته، عند نخب الاستعمار، في حين لا يكاد يُثر لها وجودا لدى نخب المستعمرات؟

قبل ذلك أود الإشارة إلى مسألة جوهرية في “التنابز بالقاموس الحضاري” إن جاز الوصف، وقد أثارها مرة مناكفة في سؤال أحد الأصدقاء، حسبته للوهلة الأولى هينا قبل أن أدرك متأخرا أنه كان فعلا عظيما، إذ سألني لمَ لم يقابل الاستشراق استغراب من لدن نخب الشرق؟ أذكر أني أجبته في الأول مازحا، بأن سبب يكمن أصلا في عدم وجود “استغراب” من جانب هذه النخب التي استسلمت واستلبت وانتهت من أول وهلة إلى حقيقة نهاية الشرق وامتلاك الغرب الأبدي لشمس الحضارة، لكن أدركت فيما بعد أنه كان لسؤال صديقي شرعية وجدوى، حتى وإن كانت نطاقات وقدرات الاشتغال بين الطرفين (استشراق والاستغراب) مختلة ومختلفة بالنظر إلى السياقات التاريخية الكبرى.

فالغرب استشرق بفضل قوته المعرفية التي تراكمت وتركبت عبر عصور، في حين ظل الشرق بعيدا عن أي إمكانية لـ”الاستغراب” بسبب ضعفه المعرفي المهول والمتواصل، كنتيجة لتراكم الجهل لديه لأحقاب عدة، شوهد هذا الشرق مشروخا بين من يعد اكتشاف نفسه من خلال أداة الاستشراق، وبين من يرفضها كأداة معرفية بحجة عدم موضوعيتها وعدم حيادها المنهجي فيما طرحته من أفكار تتعلق بهذا الفضاء الأسطوري في ملكوت الوجود التاريخي والحضاري للبشرية.

قياسا على ذلك تبدو الكولونيالية كمرحلة تاريخية ليس وارثة بل مواكبة للاستشراق في تناولها لشأن المستعمرات القديمة، فهي مستمرة في فضاء الفكر تطرح أسئلتها الجديدة، وفق ما يتشكل باستمرار في هاته المستعمرات كتداع عما خلفه الكولون من ارث تأسيسي في تلك المجتمعات التي شكلها أو أعاد تشكيلها جغرافيا، إثنيا، أو مصرفيا حتى، كما هو حاصل مع مجموعة “السي أف أ” في القارة السمراء حيث تثور الأجيال الحديثة ضدها بوصفها عُلمة “العار”

في حين لا نكاد نعثر على، حتى لا نقول جُهدا، اهتمام كبير من قبل نُخب المستعمرات تلك بالظاهرة بحسبانها تقع في محور وجودها القطري تأسيسا واستمرارا، من هنا تبدو هاته النخب منفصلة عن جذر الاشكال الأساس في أزمة إقلاعها الحضاري، كونها تهمل أسئلة القلق الوجودي الوطني التي لا يمكن إلا من خلالها إعادة اكتشاف الذات وتحقيق الإقلاع الوطني والحضاري معا، وخاصة تصفية إشكالاتها الذاتية الوطنية قبل تلك المتصلة بالمستعمر أساسا.

فالعقل الكولونيالي هو جهاز انتاج معرفي استراتيجي والسياسي بل وديبلوماسي، الذي تتغذي عليه مجتمعات الثقافة والسياسة في الدول الاستعمارية الكبرى لا سيما قوتان التقليديتان فرنسا وبريطانيا، وهذا لفرط اتصال السياسي بالاكاديمي لديهما واعتماد صاحب القرار على المخابر قبل المخابرات، مثلما أشرنا إليه في مقدمة المقال مع تجربة المؤرخ الفرنسي برنارد لوغان !

بيد أن حقبة الاستعمار في المجتمعات المقهورة، لا تُتناول سوى كعملة في سوق السياسة المحلية، وفق حسابات سياسوية وشعبوية لا غير، والسبب هنا طبعا هو أن هذه المجتمعات لم تتمكن من إنتاج نخب جديدة تعيد قراءة الظاهرة الكولونيالية بمعزل عن مرجعياتها الأيديولوجية الكلاسيكية العمومية ومواثيقها الحزبية الموروثة، أي أننا بصدد عقل مستعمَر متوقف ومُستهلَك في مواجهة عقل مستعمِر مستمر في الاستهلاك وفي انتاج وإعادة أنتاج الأسئلة والمفاهيم.

في الجزائر مثلا، يقف سؤال الوجود الوطني لدى نخب المجتمع عند حد عتباتها الفكرية وقناعتها الايديلوجية الخاصة، لأن دراسة تجربة مجتمعها مع الكولونيالية بوصفها كذلك هي أعسر ما يمكن أن تصل إليه تلكم النخب لأنها في أساسها إما متصلة بالفكر الكولونيالي باعتباره تأسيسا كما هو الشأن التيارات العلمانية والشيوعية وأصحاب مقولة أن اللغة الفرنسية المهيمنة على المجتمع هي “غنيمة حرب”، أو منفصلة عنه باعتباره تدليسا وتدنيسا كما هو الشأن مع التيارات الوطنية والإسلامية.   .

الخلاصة هي أن مجتمعاتنا تظل ضحية الانشطارية الكبرى في قصة وجودها الوطني، والسبب هو هذا الانفصال والخصام بل والصدام بين ما هو سياسي وما هو معرفي، والتيارات السياسية في المستعمرات القديمة غارقة في محاولة انتزاع السلطة من نظم ترى أنها من بقايا الاستعمار، وهذا دون أن تكلف نفسها عناء التوغل في عقل هذا الاستعمار بمعزل عن التفسيرات المرجعية الأيديولوجية الخاصة، وليس يتضح الأمر أكثر في تجربة الجزائر، التي تحرص أصوات فيها على ضرورة أن تعترف فرنسا بجرائمها في حق الشعب الجزائري، من دون محاولة فهم عميق للأسباب الرئيسة التي على أساساها تتأبى حكومات فرنسا ذلك، على اعتبار أنها، مثلما تزعم، هي من أنجبت هذا “الكيان الجزائري” من رحم تاريخها بعدما لم يكن شيئا مذكورا على الخريطة الدولية.

كاتب  جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici