في “قتل” المثقف الحزبي بالوطن العربي

0
1956


https://www.raialyoum.com/
بشير عمري

لطالما اعتبرت النخبة سببا للنكسة السياسية والثورية التغييرية التي تأملها الشعب ورامها في انتفاضاته المتتالية في العالم المسمى عربيا، إما رهبا من بطش السلطة وإما رغبا في فتاتها، وإما تعاليا عن العقل والإرادة العموميين باعتبارهما “عموميين” لا عمق لهما ولا معنى لهما في التاريخ (النظري) الذي تمتلئ به عقول تلكم النخب، لكن يظل السؤال الكبير الذي يدق برنين جرسه القوي في مسرح السياسة عبر كل التجارب القطرية العربية هو، ما الذي أدى اليوم إلى تلاشي صوت المثقف الحزبي الذي كان رائدا في زمن الحركات الوطنية وهو من أسس للوعي الوطني ورسم خارطة التحرر والحرية قبل أن يستقيل من مهمته في مرحلة إعادة البناء الوطني ويركن إلى رغائبه الخاصة؟   .

كنا قد أشرنا في مقالنا السابق إلى التقاليد الحزبية السياسية القديمة لنخب الاستعمار في قواه التقليدية وأبرزها فرنسا، حيث الحركة الحزبية تظل أساس للنقاش العام والسياسي في البلد، وكيف أن اليمين واليسار، من خلال مثقفيه، يخترق “القفصية الحزبية” ويعبر من خلال مرجعيتها عن موقفه حيال عديد المسائل الوطنية والعالمية ومن أبرز ما اهتم به، هو محاولة فهم، وإعادة تشكيل الكولونيالية وفق المستزاد والمستجد من حركات شعوبها من وعي، وبذلك ضمن هؤلاء المثقفون سلطة السياسة، وسلطان المثقف فيها في سلم العمل الوطني بوصفها حقيقة الوعي فيه والعنصر الحيوي في مسألة الديمقراطية واستمرارها في البلد الامبراطور.

ad

فانطلاقا من هكذا خصيصة لتجارب العمل النخبي الحزبي لدى قوى الاستعمار التقليدية، يتضح بأن الحزبية السياسية ليست ابتداء وانتهاء إلا تعبيرا وتجسيدا لمشاريع عقل مستمر في نشاطه التاريخي لا يتوقف ولا يتعفف حتى أمام ما قد يبدو من توافه القضايا الوطنية والدولية.

وتبدو سلطة المثقف بارزة ورائدة داخل التيار، ما قد يجعل البعض يعتقد بأنه (المثقف) متمرد أو مستقل عن سلطة القرار داخل التيار عموما (في اليمين أو اليسار) والأمر تجلى في أكثر من حادثة تاريخية قديما وحديثا.

هاته السلطة في طبيعة ريادتها للحزبية الفكري منها والسياسي، هي التي لم يخضها بعد العقل العربي اليوم، رغم أنه خاض في فترة الاحتلال معاركا شرسة من أجل أن يظل حاملا لمشروع الغد سواء داخل إطاره الحزبي، أو في مواجهة سلطة الدولة الوطنية المستقلة الوليدة.

فلا أحد يمكنه نفي السمة الريادية لـ”مثقف التيار” للشهيد سيد قطب، الذي سعى داخل النسق الجماعي لحركته (الاخوان) لتغيير المعالم التأسيسية في سبيل تحقيق مشروعها في التجربة الوطنية المصرية الذي عبرت من خلاله عن نفسها، طبعا بقطع النظر عن تلكم المعالم ومدى اتفاقنا او اعتراضنا عليها، وكان جزاءه أن أعدم بتهم طاغوتية قديمة قدم مصر الفرعونية.

ذات الأمر ينسحب مثلا على المغدور وأحد وراد الحركة الوطنية في الجزائر الشهيد عبان رمضان الذي اعتبره الكثيرون العقل الحزبي والسياسي لمجتمع الثورة التحررية في الجزائر، إذ بفضل ثقافته الواسعة وفكره الثوري النقيض الطبيعي للفكر الكولونيالي استطاع أن يعيد هيكلة الثورة ويصبغ عليها طابع العمق الدلالي التحرري من أثقالها الذاتية المعيقة كمثل ما طرحه من ثنائية الأولويات أي السياسي على العسكري والداخل على الخارج، ما جعل قوى الصراع على سلطة الثورة تخرس صوته العميق ذبحا بليل.

فالنيل من المثقف الفكري الحزبي المستمر في تجربة الدولة القُطرية العربية، جرد ليس فقط الحزبية بوصفها مؤسسة محورية في هيكل العمل الوطني من مصداقيتها لدى القواعد الشعبية، بل دنسه ومعها دنس السياسة ككل وقبحها في عيون المواطن وعموم الناس وجعل السلطة وشخوصها مقدسين فوق السياسية.

طبعا هذا سيجعلنا نستنتج بأن الأصول الطبيعية لثقافة “ديمقراطية الواجهة” التي تسود كل التجارب الوطنية بالعالم العربي، إنما تعود بالأساس إلى هذا المعطى القاتم القاتل المتمثل في تجريد السياسة من عقل انتاج المعنى الفكري للسياسة وفق المرجعيات الحزبية القديم منها والمستجد، إذ لا نكاد نجد خطابا سياسيا حزبيا يحمل المعنى الفكري العميق إزاء كل محطات العمل الوطني أو حتى حيال المشاكل الدولية، وإلا فما مبرر سكوت الصوت الحزبي من التقلبات التي تشهدها العلاقات الدولية اليوم؟ وما هي رؤى الأحزاب العربية بشأن حقيقة الحرب الأوكرانية الروسية؟

فالمؤكد أن هاته الأحزاب والتيارات بما أُلزمته من ثقافة انتهازية انتخابية مناسباتية، قد نضبت مصادر قواها وجففت منابع تدبيرها المنطقي، وبالتالي استحالت إلى غُرف فارغة لا تكاد تسمع فيها سوى رجع صوت شبح السلطة من خلال الحضور الانتهازي لقيادات هاته الأحزاب.

إن قتل المثقف الحزبي إنما هي إرادة لتفكيك المجتمع من مرجعياته المتعددة التي لا يمكن أن يبهر ويُمهر ويبرع في التعبير عنها واستنطاقها أكثر من هذا المثقف الذي لن يعيبه في شيء الانتماء للتيار أو الحزب، بقدر ما يعيب خلو هاته الأحزاب والتيارات من حضوره القوي في ساحتها وباحتها باعتباره منتج المعنى لديها كأساس مرجعي لإنتاج القرار السياسي الحزبي فيما بعد.

طبعا لسنا في ختام هاته الأسطر نعني بـ”المثقف الحزبي” ذلك الشخص المدجج بالشهادات التعلمية العالية المتعالية في صمتها، والذي يتخذ من المؤسسة الحزبية مطية لبلوغ المكاسب والمناصب، داخل نسق “ديمقراطية الواجهة” فليس ثمة أكبر وأكثر ممن أضر بالعمل الوطني في هذا العالم العربي من هؤلاء الذين ينعتون أو يحرصون على أن يُنعتوا، حتى وهم يمشون في الأسواق بين الناس، بـ”الدكتور” بل نعني بهم أولئك الذين اشتغلوا بصدق بما حازوه من أرصدة معرفية عميقة، على مرجعيات التأسيس الحزبي وقواعده الفكرية والأيديولوجية الأولى في قراءة التحولات السياسية الداخلية والخارجية وإنتاج خطاب جدي وجديد حيالها، بفضله تضمن الخارطة السياسية للمجتمع استمراريتها وخاصة مصداقيتها لدى قواعد الأحزاب النضالية، ولدى عموم الشعب ولعمري فإن فقدان هذا النموذج من المثقف هو الرزيئة الكبرى التي رُزئت بها السياسة في العالم العربي وليس أفضل ما يدلل على ذلك من ما يعيشه السودان اليوم.

كاتب  جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici