البوصلة الاستراتيجية التي اضاعتها الصحافة الجزائرية

0
507


May 13, 2023

https://www.raialyoum.com/

بشير عمري

استثار الاحتفال الرسمي للسلطة بالجزائر بيوم الصحافة العالمي بعضا من الأصوات المعارضة الجدية في الاعلام كما في السياسة، على اعتبار أن حرية الصحافة في البلد بحاجة إلى التفعيل قبل الاحتفال، وهو ما عكس شكلا آخرا من أشكال الصراع السياسي حول الرؤى المتعلقة بجزائر اليوم والغد رغم كل الأحداث والحوادث التي عرفها المجتمع في مسار بحثه عن نفسه في مرآة ساسة وسياسات لم يعثر حتى الآن عن خياله فيها وهو ما يبقي قاطرة الإقلاع باتجاه التغيير الجدي باقية على وقوفها وتوقفها الأول.

فما الذي يركس حرية الصحافة في وحل العجر عن الحركة؟ رغم كل الذي قيل عن نضج هذا القطاع الذي ناف عمر الانفتاح فيه عن ثلاثة عقود كاملة؟

وظل هنا الامثل في سياق التصدي لهكذا سؤال، هو السعي للنظر خلفا بعض الشيء بغرض تفتيش حقيبة صور الأحداث التي رافقت مسار ما يسمى بالإصلاحات التي تلت أحداث أكتوبر 1988 وخيار تجاوز ثقافة الأحادية بصوتها الأوحد وسوطها الأوجع كي نرصد موضع الإخفاق المجتمعي الذي أودى بسلطة الاعلام عبر نزع مصدر قوته وحيويته وهي حرية التعبير والتي هي ليست في أدق تعاريفها الوظيفية أكثر من “الحرية والقدرة على الوصول إلى مصادر الخبر” ومن كان وراء هدا الإخفاق المريع.

طبعا يعلم ويفهم الجميع حالة المجتمع الجزائري وهو ينفض عن نفسه غبار الأحادية المقيتة التي أعمته وأعجزته عن الحركة لثلاث عقود من بعد جلاء الاستعمار، إذ سعى عبر نخبه السياسية الفتية المتأتية عن دستور 1989 إلى إحداث القطيعة التامة والسريعة مع المنظومة الحاكمة من دون الاهتمام بالإشكالات المتعلقة بشاكلة المنظومة الجديدة وطرح الأسئلة المتعلقة بها، فكل تيار ارتأى في نفسه بديلا عن المنظومة القديمة وبالتالي لم يدخل المجتمع مطلقا معركة التعددية بل معارك التغيير الأحادي، أي من قوى أحادية حاكمة قديمة إلى مشروع منظومة أحادية جديدة تبتغي الحكم دون تقاسم ولا تشارك.

هذه الحالة من انتفاء الكفاح والنضال من أجل التعددية، كانت إحدى أهم أسباب سقوط مشروع اعلام حر وصحافة مستقلة بالجزائر، ذلك لأن وعي المجتمعات الذي يحوز آليات التغيير إنما يبدأ أساسا من تبديد مناخ الاستبداد والعمل على التطهر من لوثة الأحادية والديكتاتورية ونسف أعشاشها واجتثاث مصادر تغذيتها، قبل الانتقال إلى مراحل متقدمة من مشروع التغيير الكلي والشامل.

وهنا أخفقت النخب كل النخب في ترشيد الجهد النضالي والحرص على عدم اسقاطه في مستنقع الصراع الأيديولوجي الحارق الذي كانت نيرانه مضطرمة تحت رماد فترة الحزب الواحد، واقبال الناس الكثيف على الصحافة “المستقلة” التي ظهرت وقتها بلسان حال وحاد ايديولوجيا لدى كل عنوان وكل ذي مذهب، أسهم في تعطيل عملية توطيد التعددية في وعي المجتمع وليس ذلك فحسب بل رسخ فيه ثقافة التنابذ والتنابز والفرقة وهو المعطى الذي سيسهل كثير من مهمة من سيلتفون على المكسب التعددي بدعوى القضاء على الفوضى والتهديد للوحدة الوطنية وهذا من خلال تعليق بعضا من أقوى الصحف عن الصدور في بداية التسعينيات عُرفت إذ ذاك بـ”المعلقات العشر”.

كل ذلك كان يحدث وسط غبار الصراع السياسي حول السلطة مع “السلطة” أي الحكم وليس حول مجتمع عبَّر من خلال مراحل ومحطات من تاريخه المستقل عن رغبته في التغيير بعد أن عاش وعايش الفشل الذريع لمشروع دولة الاستقلال التي تأسست على قواعد خلافية شكلا ومضمونا.

ووفق ما تقدم فإن الوعي التعددي المحمول من الكل، مذ قيل أن المجتمع قد دخل غماره، كان خاطئا في مضمونه وفي مساره على الواقع إذ اختزل جدواه (الوعي) في التحرر السياسي من منظومة حكم، متخليا عن أدق مولدات قوة التغيير المفضية بالضرورة إلى التحرر السياسي في آخر المطاف وهي التحلي بوعي الحرية وأبرزها حرية التعبير دونما اقصاء ديني أو عرقي أو لساني أو أيديولوجي.

هذه المفارقة المفهومية والاستراتيجية لمسألة سلطة الاعلام الحر والصحافة المستقلة الحاصلة في المشهد النخبي المشروخ في الجزائر، ألسنيا، أيديولوجيا وسياسيا، والتي عبرت عن نفسها من خلال العديد من الازمات التي عاشها القطاع في صراعه مع السلطة هي التي تبقي المشهد الإعلامي بالجزائر متخلفا في معركة الوعي وبالتالي معركة التغيير، بسبب تجرد النخب الإعلامية من الخصوصية المسلكية الوظيفية لقطاعهم وسلطانه الحيوي الرمزي الرابع، مقابل الحصول على امتياز “لقمة العيش” الأمر الذي جعل حلم الانتظام في إطار نقابي الإعلامي قوي، يثبت سلطة القطاع وينافح من أجل استقلاليته بما يمكن من ترسيخ ثقافة ووعي ديمقراطية التغيير يستحيل إلى سراب، فضاعت الوظيفة، وضاع “الموظف” الإعلامي.

إدن هي في الأخير، هزيمة غير مستحقة للصحافة في ميدان معركة غير معركتها حين استنكف السياسي وهو يتصدر ويتسيد المسار التعددي عن التمكين للحرية في أوسع نطاقاتها، واكتفى بفرض أجندته الحاملة لرغبته في نزع السلطة من “السلطة” واقتياد المجتمع بمشروعه الأحادي الجديد، وعوض أن تعمل نخب الصحافة والاعلام عموما على الاستقلال عن السياسي وأهواسه وطموحاته، راحت هي بدوافع ذاتية حاولت ما استطاعت أن تحولها إلى موضوعيه تخوض معارك هامشية في المجتمع، وخسر بالتالي هنالك وسط غبار تلك المعارك الإعلامي والسياسي، وكف حلم التغيير عن أن يكبر، وربما من أسباب العرقلة التي شهدها الحراك الأخير هذا الإخفاق المريع في خطاب الاعلام والصحافة القابعين في دائرة التيه الوظيفي، مذ أوعز رئيس الحكومة الراحل بلعيد عبد السلام إلى الوكالة الوطنية للإشهار احتكار الريع الاشهاري، بجاية تسعينيات القرن الفائت، وتوزيعه وفق درجات الولاء للسلطة والبراء منها، فانزاحت الصحافة والاعلام عن معركة التغيير بشكل نهائي.

.

كاتب  جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici