قناعة منصف المرزوقي الأخيرة لإنقاذ الربيع العربي.. لماذا وجه انتقاداته للعنوشي من مغية تغذية التماسيح

0
3171


May 26, 2023

https://www.raialyoum.com/

بشير عمري

كم من الثورات تحتاجها شعوب العرب لتتحرر من الاستبداد والانسداد السياسيين وتنطلق إلى فضاءات البناء الوطني كما بقية شعوب العالم؟ سؤال يؤرق الكثير من المهتمين بمسألة التغيير من حملة وعيه في هذا المجال الجغرافي والثقافي المترامي فيما بين صحارى الطبيعة والمعنى منذ قرون، استعصت الإجابة عنه لدى المفكر والفيلسوف والسياسي معا في وقت يمضي قطار الانتكاسة كانسا على سكته كل الآمال في الاشراق الحضاري وطموح الشعوب في تسيد قراراتها وتقرير مصيرها وعليه صار السؤال أكثر الحاحا في الانطراح، من هو أولى بالثورة والأجدر بها والاقدر عليها الشعب أم النخب وهل لم يعد من سبيل أو أمل في أن يحققاها هما معا في تحالف العقل والعضلة؟

في معرض انتقاده للمسلكية السياسية التي اختارها راشد الغنوشي لحركته الحزبية النهضة في التعامل مع العهد التونسي الجديد المنبلج مع فجر الثورة، أكد الرئيس التونسي الأسبق منصف المرزوقي بأنه حذر الزعيم الاسلاموي من مغبة تغذية التمساح، كناية عن الدولة العميقة الغاطسة بأذيالها وأنيابها في أعماق المستنقع الوطني تفترس خفية كل سابح حالم بالتغيير في هاته الأوطان العربية المحظورة على التقدم والتنعم نسائم الحرية كأساس حتمي للتطور الحضاري.

ما يتضح من نقد منصف المرزوقي للغنوشي، هو أن مدلول الثورة في الوعي العربي لدى النخب كما لدى الشعب لا يزال في مرحلة ما قبل الطفولة، وهو بذلك ليس يبطل صفة الثورة على ما سبق من تجارب انقلابية فوقية عسكراتية غيرت وتغيرت من داخل منظومات الحكم فحسب بل ويبطل حقيقة انسياب فكرة الثورة من العقل إلى العضلة كي تتماسك الحركة وتتناغم الأصوات ويتوحد السبيل فيتحقق المراد الجمعي.

فإلى حد الساعة لم تقتنع الشعوب بالنخب ولا النخب بالشعوب وفي هذا البرزخ أو الشرخ الفاصل يقم ويستديم شيطان الاستبداد والاستعباد والفساد، ومعنى هذا أنه ليست هذه النظم سوى اسمال وطنية قديمة ومهترئة لا تقوى برقع ثقوبها على صد الريح، وهي إذ تبدو بالقوة التي تبدو بها، سوى لأن هذا الشرخ العضوي الصارخ في القوى الوطنية العربية لا يزال قائما ويتقوى أو يتغذى عليه.

لا تريد النخب أن تستوعب حقيقة أم حسابات السياسة الآنية شيء وروئ الفكر ونظرياته ومشاريعه شيء آخر تماما، وأن تشرشل الليبرالي الارستقراطي تحالف مع النقيض الطبيعي له لدفع الشر القاتم القاتل للجميع، وأرجأ أقاصيص الحرية ومشاريع الجنة على الأرض إلى ما بعد الانتهاء من دك حصون الغول النازي الغازي، العدو المشترك.

هاته المعادلة الاستراتيجية هي التي تغيب عن النخب وهي تستريب على قدر واحد من الشعب كما من النظم المستبدة، أو تستريب من مشاريع بعضها البعض كل وفق قناعاته وتوجهاته العقائدية التي يوظف أحيانا السياسة لتحقيقها كمصلحة حزبية غير وطنية ولا مجتمعية أو يوظف لذات الأمر عقائده لشأن السياسة وما يجنيه من مكتسبات قد تتعارض مع تلكم المبادئ والعقائد.

بالنسبة للمرزوقي، فإن الربيع العربي في موجتيه الأولى والثانية قد أصدر حكمه على الشعوب والنخب معا، فعلى الأولى، يجب أن تعي من خلال التجربة بأن الثورة ليست حدثا “سوقيا” له مجرد فعل الصدى والدوي الآني، وإنما هو مسار فكرة تحملها وتحميها العضلة وأنها تلك الشعلة المتقدة في النفس تضيء الشارع في ليله ونهاره حتى لو لم ترها العين المجردة.

أما النخب فعليها تقع مسئولية الوعي بأن كل نظريات الإصلاح النظري الترقيعي الفوقي منه والتوافقي قد بطلت ولم يعد بالوسع الوثوق في صحتها مخافة أن تعيد الكرة وتهدم الوطني بحمله ولحمه، فالمرزوقي يرى بأن هاته النظم باتت غير قابلة للإصلاح بعدما ثبت بأدق من ثبوت هلال رمضان، بأنها غير صالحة بل لم تكن صالحة مذ تأسست في غفلة من الوعي الوطني والشعبي.

وعليه يجب أن تنقلب الأمة إلى فكر سياسي جديد، مشتغل على آليات تفكيكية للتاريخ والسياسة حديثة، ومرتكز على زوايا نظر وتدبر ورؤية أخرى، كي تفضي بالضرورة في آخر المطاف والطواف الدائم والممل حول القدح، إلى انتاج خريطة طريق جديدة للانبعاث الوطني العربي، وهذا بعدما يتم استئصال هذه النظم بشكل عام وتام على المستويين المعنوي والنفسي والمادي من حظيرة الوجود الوطني العربي.

راديكالية الرؤية التغييرية للمرزوقي جديرة بأن تدرس وتُتأمل ليس لشيء سوى لكونها متأتية من صاحب ملاحم الوعي الوطني العربي وحمل ملامح معاناته طيلة سنوات الاستبداد البورقيبي وللهارب زين العابدين بن علي، قبل أن يعتلي سدة الحكم من روبتها استطاع رؤية تماسيح الدولة العميقة وهي تسبح تحت العرش وتفترس وتلتهم كل حامل لحلم الغد المنتظر، فالرجل إذن هو في حد ذاته ملخص لقصة الصراع حول الحق والحقيقة الوطنيتين في العالم العربي وعندما يفتي بلزوم التحلي راديكالية  (النخبة) والعضلة (الشعب) كأساس حتمي وإلزامي للتغير فهو لا يتحدث من فراغ وإنما من تراث مرجعي مثقل بأشياء وموضوعات التجربة.

فما حدث “لثورات” ربوع العرب التي كما ليلي شك صومها وليالي شك أعياد فطرها تعددت واختلفت وتخالفت رغم وحدة السب أي الاستبداد الفساد، من سرعة عودة “التماسيح” المفترسة بتعبير الرئيس التونسي الأسبق منصف المرزوقي، إنما سببه ضعف الرؤية تحت ماء البرك الوطنية التي يقوم عليها عرش الفساد والاستبداد أو ما يعرف بالدولة العميقة التي تنتج المجتمعات العقيمة، لأن النخب الاسلاموية كما العلمنوية، التائهة في لغطها الايديولوجي القديم وحسابات مكتسبات السياسة منها ومكتسباتها هي من السياسة، لم تتسلح بأدوات الرؤية تحت الماء الاسن فترى الأهوال التي تقيم هناك، وإلا ما كانت لتخاطر أو تغامر بالتحالف مع أنظمة متهالكة لم يعد لها من مشروع سوى الاستماتة في الاستدامة في الحكم.

كاتب  جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici