البرامج الرئاسية.. انعدام الجوهر واستحالة التقييم بالجزائر

0
1592


Aug 03, 2024

https://www.raialyoum.com/

بشير عمري

لا مراء فإن فهم وظيفة المؤسسات السياسية وعلاقتها العضوية والوظيفة تعد أساس الوعي بحق وواجب المواطنة الذي يكفله الدستور لكل مواطن في إطار المشاركة السياسية باعتبارها شأن حيوي في تحقيق البناء الوطني المنشود، وأي تعثر بهذا الاتجاه مرده في الأول الأخير هو غياب هذا الوعي المؤسسي لدى قطاعات واسعة من الشعب ويمكن أن ينسحب شيء منه أيضا على بعض الصنوف من النخب أيضا، لا سيما تلك التي اعتادت العبث بالمفاهيم والابعاد العملية في السياسة والوطنية، من هنا يتأجج السؤال في التجربة السياسية والمؤسسية في الجزائر، ما هي وظيفة الرئيس في وعي العامة؟ وكيف يمكن الحكم على نجاحه في تأدية وظيفته تلك من عدمه؟

قد يمنحنا في هذا السياق تحديد خيار استقراء تجارب الغير القدرة على، من جهة فهم كيف تدار وتقيم وظيفة القيادة العليا للدولة، ومن جهة أخرى تكشف لنا عن موطن الإخفاق الذي يحتمله الوعي في الشأن ذاته لدى الجزائريين وعموما الشعوب العربية.

ففي الأمم التي بلغت شأوا ومستوى في التقدم في الممارسة “الجمهورية” والديمقراطية في نطاقهما الوظيفي السياسي، يتم اختيار رأس الدولة من جملة مترشحين بما وعد بتحقيقه في برنامجه من آمال وطموحات الشعب، سواء على المستوى الاجتماعي، الاقتصادي والسياسي، وكلما أفلح المترشح في اقناع الشعب بموضوعية وصدقية مشروعه كلما نال تزكيتهم واختيارهم له.

لكن ما يظل فارقا في هذه الاتجاه هو أن المترشح في الديمقراطيات الحقيقية ذات المسارات المؤسسية الصحيحة، يبني مشروعه على مسألة جوهرية يقوم عليها نظامه ومن خلالها يمكن تقييمه وإصدار الحكم الشعبي والمؤسسي على نجاحه من فشله في الولاية الدستورية التي مارسها والمحددة دستوريا، وتبنى هاته المسألة على معطيات واقع الامة الداخلي منها أو الخارجي، من أزمات استعصت على من سبقوه في تولي مهمة قيادة البلاد.

ففي فرنسا التي يحاكي الساسي الجزائر نموذجها الدستوري والمؤسسي بل وحتى في طبيعة نظامها الرئاسي، يتقفى نقد الاعلام السياسي أثر الرئيس تماشيا وما يقدمه من أداء باتجاه تحقيق محور مشروعه الوطني الذي وعد به الذين زكوا ترشحه في الأول،  ثم الشعب ثانيا في حملته الانتخابية، فماكرون مثلا جيء بها أساسا من قبل الأوليغارشية وجماعات المصالح بفرنسا، للتخفيف من عبء وتكلفة الجانب الاجتماعي للدولة الذي أضر بمصالح هؤلاء، صار ينظر إليه بكونه الحائل الرئيس دون تطور الاقتصاد الفرنسي وسبب عدم قدرته على مجاراة نظيريه في كل من ألمانيا وبريطانيا، الأمر الذي فجر احتجاجات مضادة جسدتها حركة السترات الصفراء.

ذات الشأن ينطق على إيران التي تفرض فيها هيئة تشخيص مصلحة الثورة الهدف الحيوي والمحوري لولاية للمترشح لرئاسة البلاد، سواء ما يتعلق منها بمسألة الوضع الداخلي، أو السعي لفك الحصار الغربي المفروض على البلاد، أو العمل على رفع العقوبات الامريكية التي تثقل كاهل الاقتصاد الإيراني وتعمل على المس بمصداقية نظامه السياسي أمام شعبه.

عندما نأتي إلى التجربة الجزائرية لا نكاد نلفي أثرا لـ”الهدف الجوهري” في برنامج المترشح، كل القضايا لديه جوهرية! وكلها ملزمة بالتحقيق وقابلة للتحقق بل وكلها في المتناول، من هنا يصبح الرئيس شخصية غير عادية في نظر المجتمع، أكثر من ذلك ينمحي المجتمع بقدراته كلها أمام تلك الشخصية، ولعل ذلك ما يتسبب في الارتكاسات المتتالية للشعب في بلوع الوعي المؤسسي المنشود، واستسلامه لمنطق القدرات الخرافية التي يمتلكها شخص الرئيس والتي لا يمكن فهم تعقيداتها وبالتالي يستحيل تقييم منجزات الرئيس المنتهية ولاياته الدستورية بالموضوعية المثلى.

عشرة رؤساء بمختلف الصفات والصيغ الدستورية مروا على الجزائر، من رؤساء الدولة أو الجمهورية، لم يحصل أن تم تقييم ما حققوه أو لم يحققوه من منجزات في الإطار التنموي الاقتصادي أو السياسي للبلد، والسبب بسيط هو أنهم افتقدوا للمتركز الأساسي في مشاريعهم أو برامجهم أو ربما لم تكن لهم أصلا مشاريع عدا الحرص على استمرار الدولة.

إن استمرارية الدولة الإدارية والسياسية في الدول الديمقراطية ذات التقاليد المؤسسية شأن تلقائي ولا يمكن اعتباره جهدا خاصا للرئيس الجديد، ذلك لأن الوظيفة المؤسسية تمضي هناك بشكل سلسل يعكس ثقافة الدولة ومستوى ما ترسخت فيه لدى العامة والخاصة في المجتمع، تماما مثل السياقة في طرقات المدينة عبر احترام قانون المرور وتقنيات السياقة، وبذلك لا فضل يذكر للرئيس في هذا الإطار، أي سريان الدولاب الإداري والمؤسسي وتوفر الامن والسلم الاجتماعي للبلد.

وعليه فإن عدم قدرة الجزائريين على بناء مجتمع سياسي متين ومكين، يكون بمقدوره تجنيب البلد كبرى التعثرات الدستورية والأزمات السياسية، إنما هو متأت بالضرورة من عدم القدرة على فهم واستيعاب وظيفة الرئيس السياسية التي تقع خارج المحددات الدستورية، والأمر هذا خلق من خلال ما تكشف عنه التجارب الرئاسية العشر التي سبقت، ضبابية لدى العامة كما والخاصة في أحايين أخرى حول شاكلة تقييم العهدة الرئاسية بل وأحيانا في نسيان مسألة التقييم أصلا.

مثل هكذا وضع يؤسس لمسارات خاطئة في العمل القيادي، إذ أنه يحول دون حدوث التراكم المنطقي المطلوب في التجربة الرئاسية بما يفضي إلى تطور الوظيفة الرئاسية ومعها تطور المجتمع سياسيا، اجتماعيا، اقتصاديا ودبلوماسيا، ويدعم هكذا طرح ما ساقه مرة أحد وزراء بوتفليقة، عبد الحميد تمار في حوار له عبر راديو آم مع الصحفي قاضي إحسان بخصوص انتكاسة نظام عبد العزيز بوتفليقة رغم الوفرة المالية غير ذات مثيل في تاريخ الجزائر التي وفرتها له الطفرة النفطية، حيث أشار إلى ذلك الميل المقيت للمسئول السياسي للريع وتنازله السريع على تصوراته وبرنامجه لصالح السلم الاجتماعي ضمانا لرضا الشعب” وهو ما يعيق الجزائر لتحقيق الإقلاع الاقتصادي الصحيح” فهل انتبه الجزائريون مثلا لهذه الجزئية المهمة التي تحدث عنها عبد الحميد تمار باعتبارها أشكلية وظيفية في الحكم في الجزائر؟

إذن لا يزال أمام العقل الوطني بالجزائر مسافات ليست بالقصيرة للوعي بمشاكل البلد السياسية المتصلة بدولاب الحكم وكيفية سريانه وحتمية النظر إليه خارج المنزع الميتافيزيقي الذي يشل كل محاولات هذا الوعي للنمو والتطور وممارسة حقه النقدي للسلطة في أعلى هرمها من بعد تقييم بعدي موضوعي لبرنامجها ولآليات تجسيده، في جوهر تفصيلاته، أو بنقد عدم وجود هذا الجوهر أصلا.

كاتب سياسي جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici