http://www.echoroukonline.com/

2016/08/09
أبو بكر خالد سعد الله

أستاذ جامعي قسم الرياضيات / المدرسة العليا للأساتذة- القبة

يشغل موضوع اللغة بال الكثير من الجزائريين في خضم ما يرد عبر وسائل الإعلام هذه الأيام، وما سيكون عليه الحال من إعادة إصلاح منظومتنا التربوية. واعتبر البعض أن اللغة العربية ماتت وأنها سبب فشل المدرسة… وأنه لا مفازة إلا بفرنسة تدريس العلوم. ويبدو أن كثيرا من هؤلاء، بقدر ما هم يحتقرون مكانة اللغة العربية في العالم بقدر ما يرفعون من شأن اللغة الفرنسية في المجال العلمي.

ما نراه، باختصار، أن تدريس مختلف المواد باللغة العربية بقدر المستطاع في مختلف مراحل تعليمنا هو بمثابة دعم وترقية لها… بل هو من أوجب واجباتنا إذا ما اعتبرناها لغة وطنية ورسمية، ناهيك عن دورها في الحفاظ على جانب من جوانب « الهوية الوطنية ».

اللغة العربية ليست نكرة

وبغض النظر عن علاقتنا باللغة العربية نعتقد أنه من الخطأ الفادح أن نعتبرها لغة ميتة أو في انقراض رغم أنها ضحية الحاكم والمحكوم في البلدان العربية. كيف نحكم على لغة بأنها ميتة أو سائرة نحو الانقراض (ولو لم تكن لغة القرآن) وهي إحدى اللغات الست الرسمية الوحيدة في هيئة الأمم المتحدة (علما أن هناك 6900 لغة في العالم)؟ 

يمكن أن ننظر إلى تصنيف لغات العالم وفق أي مقياس وسنجد في كل الأحوال أن اللغة العربية من بين العشر الأوائل. ثمة ما يصنفها اللغة الرابعة عالميا (بعد الأنكليزية والصينية والهندية) كما جاء عام 2015 في كتاب « حقائق العالم » الصادر عن الاستخبارات الأمريكية. ومنها ما يصنفها الخامسة (بعد الأنكليزية والفرنسية والإسبانية والروسية) كما جاء في قائمة جورج فيبر  .George Weber

كيف تموت هذه اللغة وهناك مئات دور النشر في البلدان العربية وغيرها تصدر آلاف الكتب بهذه اللغة سنويا (مؤلفة ومترجمة): في مطلع التسعينيات أشارت إحصائيات أن عدد الكتب الصادرة سنويا باللغة العربية بلغت 10 آلاف كتاب. وفي إحصائيات أخرى، يشير تقرير إلى أن عدد الكتب الصادرة بالعربية عام 2007 قد بلغ 27800 كتاب! 

ثم انظر إلى الهيئات الأكاديمية في العالم العربي، فرغم ما يقال عن ضعفها وسوء أدائها فهناك إنتاج في المجال العلمي البحت ينبغي أن نفتخر به. نذكر على سبيل المثال لا الحصر، مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية التي تنشر الكتب والمجلات المؤلفة والمترجمة من أرقى الإصدارات، ويمكن لأي شخص أن يحمّلها بالمجان. كما نشير إلى مؤسسة الكويت للتقدم العلمي التي تقوم بدور مماثل. وفي الإمارات نجد موقع « الورّاق » الذي يؤدي دورا ثقافيا لا يضاهى في نشر التراث العربي الإسلامي بكل أنواعه وفنونه بالمجان. 

وفي سوريا (انظر الموقع http://www.arab-ency.com) يشرف الخبراء على ما يسمى بـ »الموسوعة العربية » والتي تتضمن (فضلا عن موسوعة فاق عدد مجلداتها 20 مجلدا) عشرات الكتب في العلوم الأساسية والطب تصدر تباعا. وكذلك فعل المركـز العربـي للتعريب والترجمة والتأليف بدمشق التابع للألكسو.

ومن يبحث في ثنايا الإنترنت سيجد عشرات المواقع الجادة التي تزود المتصفح بمئات الكتب العلمية والفكرية كالموقع المسمى https://archive.org/details/opensource_Arabic الذي يعرض نحو 87 ألف كتاب في شتى أنواع المعرفة قديمها وحديثها. يضاف إلى كل ذلك ما أنتجته وتنتجه بعض الجامعات العربية من كتب علمية (مؤلفة ومترجمة) مثل جامعة دمشق والرياض وبغداد والظهران وديوان المطبوعات (الجزائر)…

وفي موضوع المجلات هناك عدد متزايد من المجلات العلمية البحتة الرفيعة المستوى باللغة العربية لاسيما المترجم منها، مثل المجلات العريقة Nature (أرقى مجلة علمية في العالم) و Scientific American (من أعرق المجلات الأمريكية)، و Science & Vie (من أعرق المجلات الفرنسية)… والبقية تأتي، لأن بعض الجهات العربية تتفاوض حاليا مع مجلات أخرى راقية للحصول على إذن بترجمتها إلى العربية.

ذلك شأن اللغة العربية اليوم في شتى المجالات. فمن لم يستطع دعمها فليكف عن إيذائها… وذلك أضعف الإيمان.

الفرنسية ليست لغة تقدم 

دعنا الآن نلقي نظرة على مقام اللغة الفرنسية العلمية التي يراها البعض في القمة ويراها البعض الآخر في أسفل السلم. والواقع أنه نظرا لتسارع الاكتشافات والمستجدات العلمية والفكرية فليس هناك لغة قادرة على تبليغ كل العلوم! لكننا رغم ذلك يمكن تصوّر ترتيب لهذه اللغات: إذا منحنا اللغة الأنكليزية علامة 18/20 فإن اللغات الأخرى كالفرنسية والإسبانية والروسية مثلا قد يجوز منحها علامة بين 12/20 و10/20، وعندئذ ستمنح العربية والإيطالية والسويدية مثلا علامة مجاورة للعلامة السابقة.  

في 10 فبراير الماضي كتب عالم الرياضيات الفرنسي الشهير سدريك فيلاني Villani -الذي نال عام 2014 ميدالية فيلدز (المعادلة لجائزة نوبل التي لا تمنح في الرياضيات)- مقالا يحلل فيه وضع اللغة الفرنسية العلمية جاء فيه على الخصوص: « باختصار، يمكن القول إن لغة العلم كانت في البداية هي الإغريقية، ثم العربية، ثم اللاتينية. وكان إعادة اكتشاف المؤلفين الإغريق الذين تُرجمت أعمالهم من العربية إلى اللاتينية ثورة عارمة في أوروبا خلال القرن الـ13… » (انظر http://images.math.cnrs.fr/La-langue-de-chez-nous.html). 

ثم برزت خلال القرن الـ19 اللغات الألمانية والفرنسية والأنكليزية. وباندلاع الحربين العالميتين تغيرت الأحوال وعرفت اللغة الأنكليزية صعودا مذهلا على حساب الفرنسية والألمانية بازدهار الجامعات الأمريكية والهجرة الجماعية نحو أمريكا. وشيئا فشيئا هيمنت الأنكليزية على عالم العلوم والاقتصاد والثقافة والتواصل عبر العالم. ويلاحظ الأستاذ فيلاني أن نشوب الحرب العالمية هو الذي عجّل بسقوط اللغتين الفرنسية والألمانية في المجال العلمي على الأقل.

ويستطرد فيلاني في تحليله مركزا على اللغة التي تُنشر بها البحوث فأخذ كنموذج محاضرات ومداخلات المؤتمر الدولي للرياضيات الذي يُعقد مرة كل 4 سنوات منذ مطلع القرن العشرين. وهكذا أشار فيلاني إلى أن هذا المؤتمر عُقد أول مرة عام 1900 في باريس فكانت بحوثه باللغتين الفرنسية والألمانية لا غير. وفي دورته بعد الحرب العالمية الثانية، عام 1950، زالت منه الألمانية تماما وبرزت فيه اللغة الأنكليزية مع وجود محتشم لبحوث باللغة الفرنسية. 

وفي دورة عام 1978 صارت جميع مداخلات المؤتمر باللغة الأنكليزية ماعدا بحث واحد بالفرنسية و6 بالروسية. وكان الأمر كذلك في دورتي هذا المؤتمر عام 2006 و2014 (أي بحث واحد بالفرنسية) من بين آلاف المداخلات! يقول فيلاني إن صمود الفرنسية أمام هيمنة الأنكليزية راجع إلى اعتزاز فئة من الفرنسيين بلغتهم وإلى مكانة فرنسا في اختصاص الرياضيات. ويضيف أن « كل التاريخ اللغوي مرتبط بالتاريخ السياسي، وقد فرضت اللغات نفسها عبر روابطها بالهيمنة الدولية والحروب والاستعمار، إلخ ».

ومن جهة أخرى، تشير إحصائيات حول النشر الأكاديمي إلى أن 32% من البحوث نُشرت بالفرنسية عام 1982، أما عام 1993 فهوَت إلى 16%. وخلال التسعينيات أُجْري في فرنسا تحقيق حول لغة الإلقاء في الملتقيات خارج فرنسا من قبل الباحثين الفرنسيين فأكد 95% منهم أنهم يُلقون أبحاثهم بالأنكليزية وأن 76% منهم يلقون أيضا بالأنكليزية في الملتقيات الدولية التي تنظم داخل فرنسا. هذا ما كان عليه الحال في التسعينيات، وقد زاد الأمر سوءا الآن. كما أن عدد أطروحات الدكتوراه التي تُحرر بالأنكليزية تزايد بشكل لافت في الجامعات الفرنسية. وحجة هؤلاء هو أنهم يسعون لتكون تلك الأطروحات أكثر مقروئية. لعله من المفيد هنا الإشارة إلى أنه حدث في جامعة باب الزوار أن بعضهم حرر أطروحته بالأنكليزية فطلب منه ترجمتها إلى الفرنسية وحُرم من مناقشتها حتى  قام بالترجمة.

في الختام لا يسعنا إلا أن نرجو من أصحاب الحل والربط عدم التسرع في اتخاذ القرار عندما يتعلق الأمر بالخيار اللغوي، وأن تكون دائما مصلحة التلميذ والطالب فوق كل اعتبار