هل حقا استُهلك المشروع الثوري في تونس؟

0
1205


Mar 07, 2023


https://www.raialyoum.com/

بشير عمري

في فيديو له على قناته باليوتيوب اعتبر أستاذ العلوم السياسية الفرنسي الشهير باسكال بونيفاس أن النموذج التونسي الذي طالما تم التعبير عنه بكونه الأنجح، الأنجع والأسلم من بين النماذج القطرية للربيع العربي، يكون قد أعلن بدوره عن فشله وافلاس مساره، لأسباب عدة، مبرزا ومركزا على ما وصفه بانحراف الخطير في أعلى هرم السلطة بالبلاد حين تم من خلاله التعبير عن المخاوف من مسعى بعض القوى إلى “أفرقة” المجتمع التونسي، والاخلال بالتالي بتراتبية هويته العربية إسلامية (هوية التاريخ) التي تسبق هوية الجغرافيا (هوية المكان) بتكثيف تدفق أفواج الهجرة الافريقية إلى هذا البلاد الصغير ديموغرافيا، ما جعل النقاش الثوري في التونس ينحرف عن مساره وبالتالي يفقد الكثير من وهج مشروعه وحقيقة مشروعيته.

فهل حقا فشل النموذج الثوري التونسي؟ وما الذي تبقى من هذا النموذج للملاحظة العميقة بشأن المطب الثوري للربيع العربي الذي أريد له الافشال عبر كل المستويات ومن كل الأطراف المعادية للثورة، الداخلية منها قبل الخارجية؟

المؤكد في البداية هو أن حديث عن مؤامرة الأفرقة الذي يدور في المنطقة ليسه أكثر من محاولة من جملة محاولات تغيير مركز اهتمام الفاعل الثوري العربي في ربيعه الكبير من أجل احداث ثم استكمال مساري الهدم الثوري (كسر بنية الدولة البوليسة) ثم الشروع في مسار البناء الثوري (إعادة التأسيس الوطني) وذلك من خل اختلاق واختراع مشاكل جديدة تعبث بألويات النقاش في مجتمع السياسة تنزع عنه الصفة الظرفية أي كونه مجتمع الثورة يروم نقل البلد من وضع استقلالي استهلك كل شروطه ومشروعه ومشروعيته، إلى مجتمع التاريخ حيث القضايا تتجدد والأوهام تتبدد في كل لحظة وفي كل آن.

لكن هذا لا يمنع هنا من أخذ النموذج التونسي كجسد يزال به روح ويئن من آلامه الخفية غير الدامية، رغم كل المحاولات لغطسه في مستنقع أحمر لترعيب وترهيب المجتمعات العربية من أي مقولة متصلة بالمطالبة بالديمقراطية، والسيادة الشعبية على قرارات ومقدرات الدولة – أخذ هذا النموذج – كنموذج للشرح وللتشريح النقدي لمعرفة سبب العتر السياسي والشعبي في استكمال مشروع الثورة في البلاد العربية.

وهنا نشير إلى أن باسكال بونيفاس في مداخلته بفيديوه الذي أسلفنا بالذكر، كان قد أشار إلى أن النموذج التونسي تأخر في اعلان الإفلاس والفشل – على حد وصفه – لأنه قاوم قدر ما كان له من قدرة اتاحها له توافر البلاد على “مجتمع مدني” قوي نسبيا مقارنة بما هو كائن بالمنطقة، والاشارة هنا إلى المجتمع المدني تحيلنا بالضرورة إلى ضرورة فهم طبيعة هذا المجتمع وعلاقته بالعنصر الطارئ أي “مجتمع الثورة” الذي وأي منهما كان أولى بقيادة المرحلة “الثورية” المفصلية في المسارين المشار إليهما أعلاه (الهدم والبناء الثوري) كي يقطع دابر الدولة البوليسية بشكل نهائي ويتم السماح للروح الديمقراطية بالتعبير عن نفسها حتى برغم المشاكل والقلاقل التي قد يلازم عمرها ومسارها لأن ذلك شأنا طبيعيا كما كل أشياء طبيعية في هذا التاريخ.

صحيح أن تونس شهدت تناميا نوعيا في النطاقات الوظيفية المطلبية للمجتمع منذ عقود، وفكرها النقابي مثلا قفز بعيدا عن مراتب غيره في المنطقة، كاشفا عن بشائر التأسيس لمجتمع مدني سيكون له شأن ويد في عملية الإطاحة بالنظام البوليسي الذي ظل يرفع شعار التغريب التام والعلمنة الفوقية، كنموذج تبريري لمسلكيته القمعية يجني من خلالها رضا الغرب وسكوته عن خروقاته لحقوق الانسان.

لكن “المجتمع الشعبي” كان هو صاحب المبادرة الثورية إذ امتلك القدرة على تجاوز المحدودية التي أظهرتها الكثير من النخب والمحددات التي توقفت عندها جل المؤسسات التي ترسم خيال ما يسمى بـ”المجتمع المدني” على تميزه عربيا ومغاربيا كما سقناه سلفا.

والتوصيف الشعبي لمجتمع الثورة، ليس تقليلا من شأنه ولا من شأن المجتمع المدني، كلا، وإنما لتبيان مبدأ كل تغيير ومنتهاه كشرط ثوري وهو الشعب، والحديث عن الشعب، يفرض قراءة تجريدية له عن تلك التي عادة من ترسمها خطابات النخب بزخم قواميس بعضها في خُطبها الأيديولوجية ونظريات البعض الآخر الكاديمية المجردة، فالشعب هنا هو التجريب الموضوعي وليس التجريد للتاريخ والسياسة، أمر أجلاه بشكل مطلق البوعزيزي بانتحاره في مكان عمومي (سوق خضار شعبية) بعدما امتدت إليه صفعة يد السلطة من شرطية (امرأة) في مجتمع تميزت فيه المرأة بكونها مقاسمة أو متجاوزة حتى، لسلطة الذكورية المهيمنة على المجتمع العربي.

هذا التجاوز “الشعبي” لمستويات المبادرة التغييرية التي يفترض أن ينتجها نظريا “مجتمع النخبة” ويجسدها عمليا “المجتمع المدني” سيصطدم كما باقي التجارب في البلاد العربية بموت وغياب “النخب السياسية” بإفلاسها أيديولوجيا وفسادها أخلاقيا، ما سيصعب على المسار الثوري أن يأخذ مجراه الطبيعي والسلس في البلاد عبر نطاقي “الهدم ثم البناء” الثوريين فطفق يبني خطأ على القديم.

وعليه يتضح بأن أساس العتر الثوري، وليس الفشل كما وصفه باتريك بونيفاس، وكذا العديد من الأصوات المناوئة للربيع العربي، وإنما هو شرط الهدم كعنصر حيوي في قانون الثورة الذي لم يكمل مهمته حتى يمتد إلى الأعماق السحيقة في بنية الاستبداد والفساد في “المجتمع السياسي” وبالتالي توقفت عمليه التغيير عن القشرة الأولى التي عادة من يكبو عندها الحراك الشعبي العربي، لتفرض ديمقراطية الواجهة كأقصى مديات العمل السياسي والسيادي الشعبي في المؤسسات الرسمية.

إذن فلأزمة التجربة الثورية في النموذج التونسي خصوصية جعلتها فارقة فيما عداها من تجارب الجيران وهي أنها اصطدمت فيما يبدو بمشكل سريان مد وعييها ومشروعها داخل الجسد الرسمي للمجتمع، بسبب عدم توفر “المجتمع السياسي” الأنسب المفترض أن يكون الوريث الشرعي لـ”مجتمع الثورة” الشعبي المتجاوز طموحا ورؤية لأوهام النخب، إلا أن قدرة التونسيين في إحباط كل محاولات عسكرة ثورتها وإعطاء بالتالي الذريعة التدميرية لمشروعها شكل وعيا نوعيا في العقل السياسي الشعبي يظل من خلاله الأمل في أن يجد سريان الثورة مخرجا لسيلانه في الأفاق القادمة.

كاتب  جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici