من المؤسف حقا أن تحثّ معتقداتنا وتقاليدنا على العمل الخيري وأن نضرب المثل بماضي أجدادنا في هذا المجال ولا نقتدي به اليوم.
من يهَبُ النفيس في سبيل العلم؟
ألم تكن المدارس عندنا في القرون الماضية منتشرة لاسيما في الزوايا، تدرِّس العلوم كافة، وتؤدي مهامها بعطايا وهِبات المحسنين ووقف الأملاك على الأعمال الخيرية. بل كثير منها كان يضمن الإقامة والإطعام لتلاميذها والعيش الكريم لمعلميها. وقد تخرج بفضل ذلك عدد كبير من المشائخ الذين كتبوا وألفوا وأمّوا وأبدعوا، وكانوا خير سلف؟
أنشأت هذه الجمعية منصَّة مفتوحة في موقعها للجميع حتى يتبرع المحسنون حيثما كانوا بأموالهم بالطريقة التي يرونها مُناسِبة. والجميل أن الجمعية أثبت جدارتها إذ استطاعت جمع كمية معتبرة من الأموال وأحسنت لإيجاد سبل توزيعها على من يستحقها من نجباء الطلبة ليستكملوا دراستهم في الداخل والخارج.
ثم جاء بعدهم خلَفٌ في هذا العصر واختلط الحابل بالنابل، وصار المحسن والمتصدِّق بأمواله محل شكوك. يقول في حقه قائل: ربما صدقاته تبييضٌ للأموال، وربما جمعها من المحرَّمات! ويقول آخر: قد تكون وجهتها تمويل الإرهاب العابر للأوطان. فخشي المتصدِّق والمحسن وفاعل الخير من هذه الاتهامات، ووضعت الدول قوانين لتقييد حركة الأموال ومراقبة كل أنواع التبرعات حتى لا تحيد عن مسارها!
وعلى كل حال، فالثقة لدى المواطن الراغب في التبرع والتمويل الخيري تضاءلت، ولم يعد يُصدَّق المتسوّلُ ولا طالبُ معونة لإنجاز مشروع خيري، كالمدرسة، والمصحة والمسجد… ورغم ذلك ظل جل الخيِّرين لا ينفقون تقريبا إلا في المجال الديني البحت، وهو بناء المسجد، وقلما نسمع أن هناك من قام بذلك لإقامة مدرسة أو معهد لاستقبال مثلا خيرة التلاميذ، ومنحهم ما يحتاجونه من الماديات إن كانوا من المعوزين.
نشير في هذا السياق إلى أننا نراسل من حين إلى آخر بعض أرباب العمل نلتمس منهم المساعدة لإقامة ورشات تكوينية في المجال العلمي (الرياضيات بصفة خاصة) تستهدف فئات من التلاميذ والطلبة، لكن ردود الفعل لم تكن أبدًا مشجعة رغم استجابة القلة القليلة.
لا لزوم بعد هذا الكلام أن نجري مقارنات تدل على شحّ رجال أعمالنا من الجيل « المتفتح » الجديد في موضوع الاستثمار بشيء من المال في سبيل العلم، هم يفضلون بدل ذلك تمويل فريق كرة من كرات النوادي الرياضية، وفي الإشهار، وفي الصالونات العارضة لسلعهم إن كانت لهم سلعٌ.
هناك موضوعٌ يكثر فيه الحديث دائما يتعلق بما تمنحه وزارة التعليم العالي من تربُّصات قصيرة المدى للأساتذة والطلبة في الخارج. ويؤكد المتناقشون أن هؤلاء يذهبون للسياحة والمشتريات وينسون طلب العلم ومَهمَّتهم العلمية. ذلك فعلا حال الكثيرين، ولا أحد يستطيع نكران ذلك.
لكن حال عدد آخر منهم ليس كذلك أبدًا، ومن التهم الباطلة أن نعمّم الحكم الأول على الجميع، وكمثال بسيط على الفئة الأخيرة، نأخذ طلبة الدكتوراه المُسجَّلين في العلوم التجريبية (البيولوجيا والكيمياء والفيزياء التجريبية…). المشكل الكبير لديهم هو المواد الكيميائية والتجهيزات اللازمة لتجاربهم التي لا تتوفر في مخابرنا وأثمانها باهظة، وكثير منهم يسافرون إلى الخارج لالتماس إجراء تلك التجارب أو جزء منها في مخابر الجامعات المتقدّمة التي تستقبلهم، وكثيرٌ من هؤلاء الطلبة تتأخر مناقشة رسائلهم لهذا السبب، وهنا لا داعي للحديث عن حال أساتذتهم، فوضعهم بخصوص هذه النقطة بالذات أسوأ حالا.
ما المانع في هذه الحالة أن يقوم رجال الأعمال عندنا بتوفير جزء من تلك التجهيزات والمواد الكيميائية لطلابنا في مؤسساتهم الجامعية ومخابرهم كعمل خيري يدعم العلم وطلبه داخل البلاد؟
ما المانع أن يؤسّسوا صندوقا خاصا يُعنى بتوفير منح دراسية قصيرة المدى وأخرى طويلة المدى لبعض الطلبة الذين هم بحاجة إليها وأثبتوا جدارتهم؟
ما المانع أن يؤسّسوا هيئة رسمية تشرف على متابعة ومرافقة النجباء من الطلبة ماديا ومعنويا في جميع الاختصاصات، وليس فقط في بعض الفروع التجارية المبتذَلة؟
لا مانع في كل ذلك سوى أن القوم لا ثقافة لهم في هذا المجال، ولا أفُق، ولا مشروع، ولا همّ لهم فيما ليس له علاقة مباشرة بالإشهار والظهور على الشاشات الإعلامية!
بعوْن الله…
« بعون الله… » هو شعار جامعة « لافال » Laval بمدينة كيبك الكندية.. تأسست هذه الجامعة في منتصف القرن التاسع عشر، وعدد طلابها الآن قرابة 50 ألف طالب، منهم 7000 طالب أجنبي. أما ميزانيتها فتقدر بـ700 مليون دولار، وتخصص منها نحو 300 مليون دولار للبحث العلمي.
وقد صادفنا اليوم خبراً في موقعها الإلكتروني يفيد باحتفالها بحدث لافت. وما موضوع هذا الاحتفال؟ لقد تعوّدت الجامعة أن ترفع كل سنة نداء إلى الخيّرين ليتبرعوا لها بما يستطيعون من أجل تحسين أدائها والرقيِّ بالمؤسسة، وتوجِّه الجامعة النداء في البداية إلى الأسرة الجامعية، ثم إلى الخيِّرين من كل مكان.
وفي هذه السنة كان الهدف المعلن للجامعة في موضوع جلب الهِبات أن تجمع 350 مليون دولار كندي، وهو مبلغ لم تكن الجامعة تحلم بجمعه حسب رئيسها، وإنما وضعته كسقف تلفت به الأنظار إلى حاجياتها المستقبلية. وما حدث في آخر المطاف لم تصدِّقه الجامعة ذاتها؟ لقد جمعت مبلغا يفوق 530 مليون دولار، أي أزيد من ثُلُثَي ميزانيتها السنوية!
وقررت الجامعة إثر ذلك تخصيص نسبة 48.6% منه لتمويل البحث العلمي بالجامعة، ونسبة 45.7% كمنح للطلبة المتفوقين و5.7% للمرافق العامة. عندما ننظر إلى توزيع هذه التبرعات ندرك لماذا يستجيب الخيِّرون لنداء الجامعة، فهم واثقون أن أموالهم لن تذهب سدى، ولن تصل إليها أيدي المختلسين والمفسدين.. إنهم يدركون أن من يقف وراء حملة التبرعات أناس يحملون مشروعا ويحظون بثقة المواطن ورجل الأعمال ورجل الدولة.
ما تقوم به جامعة « لافال » ليس فريدا في عصرنا هذا فظاهرة العمل الخيري موجودة في أماكن كثيرة، يكفي أن تجد من يتولاها. والعيب فينا إذ أننا لم نهتدِ إلى الطريق الأمثل حتى نفعّل هذا العمل النبيل. ولا أدلَّ على ذلك ما تقوم به في لبنان جمعية خيرية تدعى « ليزر » (الجمعية اللبنانية للبحث العلمي) يشرف عليها أحد أساتذة الرياضيات في بيروت، وهو الدكتور مصطفى جزار، تهدف الجمعية إلى « دعم التعليم العالي والبحث العلمي في لبنان ».
وقد أنشأت هذه الجمعية منصَّة مفتوحة في موقعها للجميع حتى يتبرع المحسنون حيثما كانوا بأموالهم بالطريقة التي يرونها مُناسِبة. والجميل أن الجمعية أثبت جدارتها إذ استطاعت جمع كمية معتبرة من الأموال وأحسنت لإيجاد سبل توزيعها على من يستحقها من نجباء الطلبة ليستكملوا دراستهم في الداخل والخارج.
فأين نحن من كل هذا النشاط الذي لا يهتم به الأساتذة الجامعيون عندنا، ولا رجال الأعمال ولا الساسة في البلاد؟ ذلك هو من دون شك أحد أسباب تخلفنا في المجال العلمي.
Aucun model ,à travers l’espace et le temps, ne réussira dans les universités du bled.
Problème,
On veut construire une société sur les décombres d’une société écartée.
On singe pour remplacer et on remplace pour singer.