بشير عمري
Dec 05, 2017
الوطنية، فمن استفاد من اغتيال هاته الشخصية الهادئة ذات التكوين التقني والقدرة السياسية الكبيرة التي تقطع خطابيا على الأقل مع المرجعية التأسيسية الأولى للجبهة الإسلامية للإنقاذ التي جسدتها القيادة التاريخية ممثلة في عباسي مدني وعلي بن حاج؟
بداهة يتضح أن مخاض إدارة أزمة الحكم في عهد «ما بعد الإرهاب الأعمى» الذي مس الجزائر أشعل صراعا ضاريا داخل السرايا بين فرقاء السلطة بشقيها الثابت المتخفي الذي عرف بالسلطة الفعلية التي تأسست بفعل خطيئة الانقلاب الأول عن الشرعية سنة 1962 والمتغير المتجسد في بوتفليقة وإن كان هو بذاته ابن نظام الخطيئة الانقلابية الأولى، فكل حاول فرض الرؤية التي تخدمه في مسرح اللعبة، من خلال ما سيمسكه من خيوط يدير بها مصيره في ظلال معترك التكتل السلطوي، وفق ما تسمح به المستجدات الداخلية منها والخارجية.
لا يخفى على ملاحظ متتبع دقيق لتطور الصراع الداخلي للسلطة مذ تراجع الهمج الإرهابي نهاية العقد الأخير للقرن الماضي، باستقالة الرئيس زروال الأولى وقد تكون الأخيرة في هذا المستوى من السلم الحكم في الجزائر، واستخلافه ببوتفليقة، وكيف أديرت كل الملفات في معارك هذا الصراع الذي لم يشهد شراسة وندية مذ صار الحكم على هاته الشاكلة بعيد الانقلاب الأول على الحكومة الشرعية سنة 1962 والذي أدخل البلاد في أتون أزمة حكم دائمة وطاحنة قد تمتد لسنين أو عقود أخرى.
فكل ما حدث من فعل سواء صُنف بالمعزول أو المقصود هو يندرج في إطار خلط الأوراق وفتح الملفات من هذا الطرف أو ذاك لكسب نقطة في سيرورة اللعبة التي اتضح فيما بعد أنها كانت جدية بعد انقلاب بن فليس سنة 2003 على صاحبه الرئيس، وشروع السلطة الفعلية في تجهيز المتمرد كخليفة لمن تمرد عليها، فاغتيال حشاني الذي يجسد المعضلة الرئيسة في مشروع التسوية الوطنية بحكم من أنه العقل السياسي المدبر لتيار تم فصل رأسه (السياسي) وعُسكر جسده لمحو صفته السياسية، الذي قد يتسبب في هزيمة هذا الطرف أو ذاك، كان حاجة اقتضاها الفصل الجديد من صراع ثنائية الحكم الذي برز مع الاستقلال.
ففي الوقت الذي كانت السلطة الفعلية ممثلة إذ ذاك بجهاز الاستخبارات ومن سار وطار في فلكه يسعى لفرض الطرف العسكري في التيار الإسلامي كمحاور متمرد عن «سلطة الدولة» بشأن المصالحة وإنهاء وردم فصول المأساة الوطنية، بما يدفن كل دلالة على أن الأزمة سياسية في الأول والأخير، وينقض قناعة العسكريين ومن حالفهم القائمة في الخطاب والممارسة على أنها أمنية محض، كان من العبث أن يسلم بذلك بوتفليقة ويجرد نفسه بالتالي من أبرز أوراق الصراع على أكبر مساحات من السيادة السلطوية في البلاد، لذلك أصر على يمشي عكس مناوئيه وينظر إلى أولوية السياسي.
في الجزائر الحسم في السياسة يلعب تكتيكيا وبشريا حتى، وليس ثمة ما يمنع اللجوء إلى ذلك، إذا ما اقتضته الحاجة، وعودة إلى قائمة من قتلوا في الداخل والخارج وفي ظروف كانت وستظل مجهولة على مدار عقود الأحادية، تبقى أكبر شهادة على ذلك، فالحسم بالعنف ضد الجماعات كما الأفراد، إرث قديم من مورثات آلية إدارة الصراع في الحركة الوطنية. ولم تقو التعددية الوليدة، التي لم تحصل على إجماع داخلي في عرش الأحادية، على استئصاله، لأنه تم استئصال كل مكنونات قواها الابتدائية وهي لمّا تستوي بعد على عودها بعيد انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 1988، فالتخلص من حشاني السياسي المحنك الذي خطف بظهوره، عقب إطلاق سراحه سنة 1999، الأضواء وقلل بذلك من اهتمام وأهمية ما كان يشاع من مفاوضات بين الإسلاميين الإنقاذيين العسكريين (الجيش الإسلامي للإنقاذ) والجهات الأمنية من أجل وضع السلاح، لدى الرئاسة الجديدة كما لدى جل المهتمين بالمعضلة الجزائرية، ودخل بين هذين الطرفين كرقم فاعل ومقلق لهما على حد سواء، الأمر الذي كان سيعرقل مسار المشروع الوليد الذي خطط له ليأخذ مجراه فور التخلص من ليامين زروال.
المؤسف أن القراءات السياسية للأحداث التي تحوز الاهتمام التحليلي والإعلامي الواسع، ممن يشتغلون في هذا الإطار، وبالتالي عادة ما يجانبون بقراءتهم تلك السبر العميق لغور للحدث، من خلال استحضار الخصيصة التفكيرية والتعاملية لكل الأطراف المتصارعة والمتعاصرة، وتقاليدها في ذلك بما يتيح فهم مقاصد التصرف حيال ذلك الحدث وبالتالي فهم مراحل المخطط بقبليته وبعديته، خصوصا وأن العقل الذي أحبط تجربة التعددية السياسية بعد ثلاث سنوات من سريانها الطفولي الطبيعي، وأدار فترة التمرد الثاني على التاريخ، هو العقل ذاته الذي أدار «التمرد الأول» وبالتالي الآليات الصدئة ذاتها أعيد تشغيلها لإعادة الجزائر إلى حضيض البداية المتعثرة أغتيل بها حُلم الانطلاق الوطني نحو بناء دولة معاصرة.
ما يمكن الخلوص له هو أن اغتيال حشاني في ظرفه غير العادي زمكانيا، يسمو على أن يكون بالطابع والأهمية والغاية التي اغتيل بها من سبقوه من ساسة ورجال الفكر والثقافة والتاريخ، حين كان يغسل الوعي بدم في أبشع عمليات الغسل التي يمكن أن يلجأ إليها سياسي عسكري أو عسكري سياسي وهو يمارس المكيافلية الوضيعة القاتلة. فإذا كانت تلكم الاغتيالات موجهة للاستهلاك الإعلامي في رهان استعراض القوة وتوجيه الأحداث وفق رغائب منفذيها، فقد كشفت بالمقابل لحظة اغتيال عبد القادر حشاني بكل مخزونها الدلالي، لمن استطاع أن ينفذ من دوائر انسجانه الدماغوجي، ومستواه التفكيكي لمغامض الطبيخ السياسي للعقل الحاكم في الجزائر، عن حقيقة المواقف داخل بيت السلطة الجديد القديم، حيال ماض وحاضر وأفق السياسة والحكم في مشروع التمرد المتواصل على التاريخ ممن صادروه وعيا ومادة مذ أعلن عن مغادرة المستعمر الأجنبي أرض الوطن، فحالة الاستقرار بالمفهوم الطبي الذي تلزم به السياسة في غرفة الإنعاش الأزلية مذ احترفها رجال الحركة الوطنية قبل التغوُّل العسكري، ليس ثمة ما يؤشر على أنه ستزول في الغد القريب وأي تماطل نخبوي في دق أجراس المصير في حظائر الشعب سيكون الخطيئة التي ستعلق بها كلما ذكرت وذكر الوطن معها.
٭ كاتب صحافي جزائري