يبدو الحديث اليوم عن فرصة « الانتخابات » المزمع اجراؤها في منتصف الشهر المقبل وأهميتها في الحفاظ على ديمومة الدولة واستمرارها و حلّ الأزمة حديثا مغلوطا؛ وبخاصة من الناحية السياسية. فالجدل حول هذه الفرص « الافتراضية » ، يغيّب سياسيا – على الأقل – جوهر الأزمة و أبعادها. وعليه، يكون من الأجدر الحديث أو التساؤل عن دواعي و أسباب رفض أغلب الجزائريين والجزائريات لهذه الانتخابات؟
تشير الدراسات و تجارب الأمم التي عرفت مسارات انتقالية في أنظمتها السياسية، أنّه لا يمكن للانتخاب أن تكون موضوع » التوافق » بين القوى الفعلية والفاعلة في المجتمع، بل أنّ سيرورة التحوّل إلى نظام ديمقراطي هي التي ظلّت تشكل محور كل النقاشات والتداول بين مكوّنات هذه المجتمعات وفعالياتها.
ويذكر التاريخ السياسي أنّ الديمقراطيات الحديثة لم تتأسس على فكرة الانتخاب ، و إنّما تأسست على فكرة الصراع بين مختلف القوى على مشاريع سياسية ، بينما بقيت الانتخابات على حدّ تعبير Przeworski (1999) تعكس فقط السلطة الرمزية للمواطنين في حق الاختيار السياسي ، و مصدرا للمعلومات تخبرنا عن انفعالات و قيم أفراد المجتمع، ومصالح وتوزيع هذه القوى الفاعلة. و عليه، يكون من المغالطة أيهام الجزائريين والجزائريات أنّ « الانتخابات » هي جوهر « الديمقراطية » و مكوّنها الرئيس؛ ذلك أنّ الديمقراطية هي نظام سياسي شامل وكلاّني يتميّز بنوعية عالية في القدرة على الإنصات للمواطنين ؛ فالمواطنة هي باروميتر النظام الديمقراطي وليس الانتخابات.
و ضمن هذا المسعى، لابدّ لمشروع التحوّل الديمقراطي و بناء الدولة الحديثة أن يتجه نحو مأسسة الضمانات الدستورية التي تسمح للمجتمع بالتفتح والانفتاح و تفجير طاقات الإبداع لدى كل مواطنيه. كما ينبغي أيضا أن تسمح هذه الضمانات من إعطاء فرص تحقيق وممارسة حق المواطنين في بلورة ميولاتهم واختياراتهم والتعبير عنها على قدم المساواة بعيدا عن أي إقصاء أو تهميش مهما كان نوعه أو شكله. وعليه، فإنّ دمقرطة النظام السياسي، لا ترتبط حصرا بممارسة حق الانتخاب، و إنما هي أساسا سيرورة ترتبط بحق تملّك الحريات الأساسية و ممارسة الحقوق السياسية ، وبالمنطق نفسه أي الحق في إمكانية الاعتراض على أساليب الحكم وآلياته ومحتوياتها.
إنّ العنف الرمزي الذي ظلّ يتردّد في خطابات السلطة، لا يمكن اعتباره ظاهرة عارضة أو حدثا اجتماعيا عابرا، بل هو مؤشر سوسيولوجي يدل على عجز هذه السلطة في إدارة التناقضات المجتمعية والصراع الطبيعي الذي يحكم العلاقات بين فئات المجتمع، و فشلها في مسألة التوزيع العادل للثروة وانحصار وظيفتها منذ الاستقلال في مراقبة الريع والاستحواذ عليه لصالح أشخاص ومجموعات فاقدين للشرعية. وقد كان من نتائج هذا العجز و الفشل العضويين استفحال الفساد، و تفكك الروابط الاجتماعية و الفشل المستدام في مأسسة معايير اجتماعية تحيّد المجتمع عن التوتّرات والصراعات التي تستنزف طاقات أفراده وتجعلهم يراوحون مكانهم.
ومهما يكن، يعود فشل التحول السياسي في الجزائر، إلى استحواذ النظام على السلطة السياسية بالقوة منذ الاستقلال، وهيمنة رموزه و « مريديه » على دواليب الدولة ومؤسساتها الناشئة ؛ حيث ظلّ هؤلاء يعتقدون أن السلطة السياسية هي فعل و ممارسة « خاصة » ( Privée ) ، وهي الحالة التي قد تفسّر إلى حدّ كبير مبرّر الشرعية الثورية في ممارسة الحكم بعد الاستقلال و أحقّية « تجاّرها » في الاستحواذ على هذه السلطة وخصخصتها.
و بعيدا عن هذه الوضعية وهذا الواقع المرير، فإنّ التحوّل الديمقراطي يستوجب مشاركة ومساهمة فعلية لكل أفراد المجتمع و مكوّناته في النقاش العمومي و المداولة. و عليه، فإذا كان شرط المشاركة الفعلية في المناقشات والمداولات المرتبطة بالشأن العام حقا طبيعيا ومواطنيا ؛ فهي أيضا آلية لضبط وتعديل التوتّرات و الصراعات الاجتماعية، و واقيا لبروز العنف بكلّ أشكاله.
إن أيّ مشروع سياسي يهدف إلى مأسسة تحوّل ديمقراطي فعلي لا يمكن له أن يغفل و يجلي مسألة الحريّة الفردية والجماعية، ومسألة استقلالية الأفراد والسلطات والمؤسسات. و في هذا السياق، تظهرأهمية استقلالية الأفراد وحريتهم في تشكّل التحوّل المجتمعي عن هيمنة الشبكات الاجتماعية التقليدية و العصبيات و روابط القرابة والدم، والسلطات التقليدية (الزاوية، العرش ، …الخ) . كما تظهر أهميتها أيضا في استقلالية أفراده عن التصوّرات الدغمائية و المؤدلجة للدين والهوية و اللغة والتاريخ وغيرها. و في هذه الحالة فقط يمكن لنا أن نفهم رفض الجزائريين للانتخابات العصابات، والتوق إلى الانخراط وانتظامهم في مشروع سياسي توافقي تنصهر فيه الروابط الاجتماعية والسياسية على أساس هذين المكوّنين : الحرية والاستقلالية. و هي الفكرة الفلسفية التي أسس لها Hegel منذ حوالي قرنين من الزمن سعى فيها إلى التوفيق والمؤالفة بين الاستقلالية الذاتية (autonomie subjective ) وفكرة الوحدة القبلية (a priori) للمجتمع. وتبعا لهذه الديناميكية، يكون المجتمع المفتوح و النظام الديمقراطي الذي يطالب به الجزائريات والجزائريين نتاجا لسيرورة مجتمعية وسياسية تمكّنهم من الانعتاق من نظام الهيمنات الممتدة والمتعدّدة، و تمنحهم فرصة التحوّل إلى أفراد أحرار، والقدرة أيضا على دمج علاقاتهم وروابطهم الاجتماعية التقليدية في علاقات مؤسساتية و أنماط وساطات رمزية حديثة.
وعلى عكس ما يسوّق له تجار « الوطنية » الضيّقة وزبانية النظام الأحادي البيروقراطي ، الذين استفادوا من التوزيع غير العادل للريع البترولي ، فإنّ ما يربط أفراد المجتمع الواحد في المجتمعات الحديثة ليس قدسية تصوّرات أحادية وهمية واهمة ، مهما كانت مضامينها، وإنّما الذي يربطهم هو علاقات عقلانية موضوعية تتشكل أساسا في عقد اجتماعي وسياسي يعطي شرعية للمؤسسات الاجتماعية التي تنشأ من آلية الانتخابات. فالانتخابات بهذا المعنى ما هي إلاّ آلية لإعطاء شرعية شعبية للعقد الاجتماعي والسياسي الذي تمّ التوافق عليه قبليا، و إجراءا تنظيميا يرسّم الحق في الاختلاف. كما تترجم الانتخابات على المستوى الفردي، حرية الجزائريين وقدرتهم على اختيار انتماءاتهم السياسية وشكل هويتهم السياسية دون خوف أو إقصاء. وبالتالي، يظهر من الأهمية بمكان أن نفهم أن العقد الاجتماعي السياسي بين الجزائريين والجزائريات هو الذي يحفظ توازن المجتمع، وليس الانتخابات؛ و هو الذي يحدّد أيضا وحدتهم، و يضمن ديمومة الدولة ودور مؤسساتها في الوساطة والضبط والتعديل.