الفكر السياسي.. الغائب في عقل النخب الحاضر في فعل الشعب!

0
119


بشير عمري

06/09/2020
https://alsiasi.com/

أحيانا لا يعدو تأمل البعض لظاهرة الحراك، حد الخروج الغريزي التلقائي للجماهير إلى الاحتجاج بالشوارع والساحاب، بعد شعورها بالمهانة والعار من رؤية جماعة تدفع ببقايا رجل للترشح لرئاسة البلاد، على مرأى ومسمع وسخرية العالم، ولا ينفذ تأملهم إلى ما خلف ذلك من ميزة أو محاولة ملء فراغ على مستوى العمل العقلاني والفكري التأسيس المتواصل للسياسة الذي نبذته النخب السياسية بشقيها الفكرية المتأملة والحزبية العاملة، خلف ظهورها لمدة نافت عن العقدين على أقل تقدير، أي منذ جلسات سانت ايجيديو الخالدة التي لم يُرى مثلها في البلاد، ولم تتبلور إلى فكر وطني يحمل عنوان التجربة الوليدة وهذا بسبب القبضة الأمنية على الوعي وعلى النشاط المعرفي المتصل بالتاريخ الوطني تفسيرا وتأويلا.

فهل يمكن القول حقا، بأن مأساة الجزائر ليست تقف عند حد إرادة عدم التغيير سياسيا من قبل القوى المناوئة لكل حركة أو تيار تغييري في الجزائر؟ أم أن فشل النخب في الاشتغال فكريا على الأزمة الوطنية تسبب في نكسة ثانية لقيام دولة الشعب لا الوصاية عليه، بعد نكسة سكوت العقل خارج نطاق النضالية الاحتجاجية على لا شرعية سلطة القوة التي حكمت منذ 1962، في تناول المرحة بالعمق الفكري اللازم الذي كان سيعجل ويجعل من إراة التغيير التي تحققت شكلا بعد انتفاضة أكتوبر 1988 تكون أسبق وأصلب مما حصل حينها؟

تساؤلات يقرها اجماع الكل على فشل تجربة دولة التعددية (1989/2019) بعد فشل دولة الأحادية (1962/1989) والفشل متجل بقدر فاضح وواضح من خلال افرازات المرحلتين، إهدار وقت ومال كبيرين في مسار تنموي أحادي ، خاطئ التصور والتجسيد انتهى بإفلاس تام للدولة والمجتمع بالنسبة للتجربة الأولى، وبسفك غير مسبوق للدم وتبديد وتكسير لبنية الاقتصاد الوطني التحتية المترهلة كميراث عن أحادية فرعونية كعنوان لمشهد المرحلة الثانية القاتم، فشلان طرحا أكثر من علامة استفهام بخصوص دولة الثورة التي تأسست ففي حلم رجالات الحركة الوطنية التي أخطأت الثروة ببيعديها البشري والطبيعي كي تؤسس لحلم دولة الاستقلال، أين مكمن الفشل بالتحديد؟

وإذا كان لا يبدو جائزا كيل اللوم كله على نخب ما بعد الاستقلال ونقدها بخصوص عدم تمكنها من الارتقاء من مستوى الاعتراض السياسي والشرعي على سلطة الانقلاب الأول الذي تم على الحكومة المؤقتة ومحاولة إيجاد بدائل متعلقة بكيفية إعادة التأسيس الوطني لمسألة الدولة ومشروع المجتمع وهذا من خلال التأسيس لحوار فكري سياسي يرقى عن الحسابات الحزبية والاويديولوجية الضيقة، وهذا بسبب ظروف الدولة حينها والقمع الذي كان وسيلة أجهزتها لترويض وتكميم كل الأفواه والاصوات المعارضة، فأي مبرر يمكن إيجاده لنخب ما بعد انبلاج التعددية وسقوطها في مطب “الانقلابية الصامتة” سنة 1962 حيث لم يكن الحجر على العقل والحظر على الارادة كما كان عليه الشأن مع دولة الاستقلال؟.

ولا مرحلة ما بعد وأد التعددية أو لنسميها الثورة المضادة لثورة أكتوبر 1988 نالت ما استحقت من القراءة النقدية التفكيكية لأسباب نقض ثورة أكتوبر ورفض التعددية مضمونا دون الشكل بعدما تم إلباس البعد الصوري الشكلاني لكل الأحزاب كما ألبسها الحزب الواحد بعد نهاية “القضية” بنيل الاستقلال واحتباس الثورة المجردة من الفكر.

ولنسألن في هذا السياق من الباب التدليل على خطئية عزوف العقل عن مواكبة الفعل السياسي بالجزائر، المكتبة الوطنية في جناحها السياسي عما كتب عن المرحلة المفصلية هاته في تاريخ الجزائر، فالأكيد سنجد ما تم انتاجه كنشاط فكري عقلاني صرف، بعيدا كل البعد عما يغطي المرحلة ويجعل مسار نشوئها وانحرافها في العراء النظري التام، بما كان سيمكن من إفراز بدائل لتصورات وبرامج العديد من التيارات والأحزاب وكل الفاعلين السياسيين، هكذا غياب كرس الرداءة في سوق العرض السياسي والنتجة الحتمية لذلك لن تكون بطبيعة الحال سوى العزوف شبه الكلي عن العمل السياسي.

فالملاحظ إذن هو أن الهزيمة في معسكر التغيير الذي قادته نخب السياسة، ليست تقف في أسبابها عند قوة النظام وصلفه في شراء الذمم داخليا وخارجيا لاستمراره في الحكم، والاختراق العضوي من أجهزته الخاصة، للكيانات الحزبية وتفجريها وتدجينها من الداخل، وحالة الانفصام الحاد الحاصلة بين الشعب وهاته النخب بسبب نكسات النخب الفاعلة في المسرح السياسي وعدم قدراتها على مجاراة نظام لا يتوانى عن تمكيد السياسة وتسييس المكيدة في معاركه مع خصومه، بل إن الهزيمة لتمتد إلى أعماق الظاهرة التاريخية للسياسة في الجزائر التي عزف العقل عن تفكيرها بدل تكفيرها ونبذها، بالشكل الذي جعلها تسقط من قائمة فضائل الأعمال وأهم وسائل النضال الوطني الأول التي بفضلها تأتى الاستقلال.

وإنه لمثلما اختزلت أزمة الدولة المستقلة في انشطار الصف الثوري وانفراط عقده بسبب الصراع على السلطة، في كتابات الفاعل الثوري وقتها ومضي النشاط المعرفي على ذلك النسق في تناول الأزمة، أختزلت أزمة المرحلة الثانية من تجربة الدولة الوطنية (دولة التعددية) في التناول السياسي والأيديولوجي التصارعي بكل ما حمله قاموس الخطاب الموجه (إرهاب، أصولية، استئصال والحفاظ على الجمهورية..) ما جعل الساحة السياسة تركد وترقد على ذلك المنسوب المكرور من الخطاب، وهو ما كان يعطي للسلطة فرص إضافية لربح المزيد من الوقت كي تتستمكل مسار اركاسها للتعدية كعنوان لمرحلة، تأمل فيها الشعب خيرا بعد أحادية صلبة كتمت أنفاسه لثلاث عقود من عمر الاستقلال.

هكذا سكوت للعقل السياسي وعدم إفرازه لفكر يرقى عن القراءاة النمطية التيارتية لأصول الأزمة الوطنية وتجارب دولة الاستقلال، دفع في 22 فيفري 2019 بالفعل الثوري الشعبي لملء فراغات العقل النخبي وينطرح مجددا كموضوع للتأمل في ظل إخفاق هاته النخب في العمل، فهل ينقلب الحراك الشعبي من عبقرية الفعل الشعبي إلى دائرة اشتغال العقل النخبي،  أم أننا سنشهد ارتكاسة ثورية ثالثة؟

بشير عمري

كاتب صحفي  جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici