موجبات القطيعة المعرفية مع منظومة الحكم المتجددة

0
123
https://alsiasi.com/
بشير عمري

تتواصل عملية تفكيك المنظومة الهشة التي تركها قائد الاركان السابق، أحمد قائد صالح، في برزخ غير آمان من صراعات المجتمع السياسية، أسهمت ثورة الحراك الشعب من خلالها في كشف زيف وتلاعب رجالات الانقاذ الجمهوري بعد أن تبين أن إنقاذهم المزعوم، كان لنظومهتم ليس غير، وها هم في آخر أطور عملية التفكيك يعودون بإيقاع متسارع إلى مسرح الصراع، معتقدين أن هوامش المناورة وإمكانية الانبعاث لا تزال قائمة، رغم المعطيات الموضوعية التي تقف بإرائها كعوامل ضدية من مثل العمر، والنضج الشعبي والوعي السياسي الذي صارت يتسلح به الجيل الجديد من الشباب، وبه يشرس في نضاله باتجاه تحقيق التغيير الفعلي وليس المطلي!

فبغض النظر عن التبرئة القضائية للعناصر التي حاكمها قائد الاركان السابق، وهل كانت وفق أسس قانونية أم حسابات سياسية، ليس هذا ما يشغل المتتبع للشأن السياسي الجزائري المتجه مع الأسف كما هو واضح، نحو المزيد من التعقيد، بقدر ما يهمه اليوم معرفة واقع حال وأفق المآل للأزمة السياسية والوطنية الكبرى من خلال هكذا تدبير خطير لأزمة الحكم، والسعى لادارتها فوقيا باستعمال المؤسسات السيادية كآلية ومسرح للصراع.

في منشور له على صفحته بالفيسبوك، عاود الاعلامي الشهير عبد الكريم حاج ناصر السخرية من  “الدكتور” محمد لعقاب، مدير حملة الرئيس عبد المجيد تبون الانتخابية 2019، والمكلف حاليا بمهمة في رئاسة الجمهورية، مذكرا بتصريحه الصادم لمجتمع المعرفة إثر وفاة القائد صالح حين طالب طلبة الدكتورة في الجامعات الجزائرية بالاشتغال على فكر قائد الاركان السابق أحمد قايد صالح السياسي! وهذا على ضوء التطورات التي عرفها صراع الاجنحة على مسرح القضاء المستعمل، بعد أن رجحت الكفة فيه لمناوئي خط القايد كما أشرنا أعلاه.

من المهم جدا التحلي بقدر ولو ضئيل من الاستبصار لفهم أوسع وأبسط لأزمة نظام الحكم في الجزائر، لأن البعض لا يزال يلهج بمفردات وخطاب خاطئ، حين يعيد ترديد “الأزمة السياسية” بالمطلق بوصفها العقبة الأولى التي تحول دون انطلاق المجتمع الجزائري في مسرات تنميته الأخرى، وإيراد كلمة “الأزمة السياسية” لا تعني هنا سوى صرعات من كل الاتجاهات من انتاج مجتمع سياسي متصادم طائفيا أو حزبيا أو أيديولوجيا، وهذا ما لا يؤسس مطلقا الحالة الجزائرية، لأن الفاعل السياسي هنا معطل مكبل ومُدار بشكل توقيتي وترتيبي دقيق من قبل أجهز نظام الحكم منذ توقيف المسارات الثلاث بضربة واحدة سنة 1992 (المسار الانتخابي، السياسي والديمقراطي)  فكيف يكون الفاعل هنا أفرادا أو أحزابا، عنصر أزمة وهو مغيب عن الفعل السياسي الحقيقي.

فالأزمة الكبرى التي تعيق البلد تظلها في “أزمة جهاز الحكم”، الذي مذ نشأ على خطيئة صائفة 1962 لم يتمكن من حلحلة مشاكله التي ستتفاقم مع توالي السينين وتوالد الاجيال، وبمشاكله وتعقيداته التركبية والتسييرية احتبس بل ورهن معه كل المجتمع والدولة، وبات عقبة كؤود للشعب في التحول التاريخي المأمول كما تحولت كل الشعوب والبلدان في فترة ما بعد الكولونيالية.

من هنا يتبين أن من راهنوا على  أحمد قايد صالح كفارس مرحلة جديدة قاطعة مع النظام كانوا ليس فقط خاطئين بل واهمين، فالرجل ابن النظام مشفر بشفيرته، مطبوع بطابعه، مصيره مرتبط بمصيره، فكل ما عمله هو أنه واجه خصومه داخل المنظومة مستعملا قوة الشارع الثائر، ورفض رفضا باتا أن يشرك في مواجته لهؤلاء الخصوم الشعب بثورته الكبرى تلك، لأن وصول حركة الشعب إلى حلبة الصراع (الداخلي) للمنظومة الحاكمة تعني تقويضها وجرفها بسيلها العاتي برمتها واستصال ثراتها!

بالعودة إلى سخرية عبد الكريم حاج مهدي من محمد لعقاب، في دعوته إلى تخليد أحمد قايد صالح أكاديميا من خلال تناول “فكره” السياسي” فإنها لتكشف عن عمق خيبة “المعرفة” التي رسخها مشروع دولة الاستقلال، عبر جامعة جزائرية أريد لها أن لا تنتج المعرفة، بل فقط تعيد إنتاجها مثلما إعادة التركيب في الصناعة، وبالتالي أريد لها أن لا تصنع التاريخ، وهو ما يفسر عدم قدرة النخب الثقافية والعلمية لدينا اليوم على التمحور كفاعل قوي في المجتمع له تأثيره في توجيه الوعي وصنع القرار مثلما هو الشأن في المجتمعات لا نقول المتطورة بل فقط تلك الماضية بحق على درب التطور.

ففي الغرب يتكامل عنصرا المعرفة والسياسة عبر تفاعل دائم وعميق، فلا يستغني السياسي عن المعرفي ولا هذا الأخير عن السياسي، مع احتفاظ المجتمع بكليهما لأنهما يختلفان في البنية والوظيفة ويلتقيان في الهدف، وهو الاختلاف الذي ينتج عمليا ما خطط له في المشروع الوطني.

عندنا هذان العنصران، متقاطعين في كل شيء، ولا يتكاملان في شيئ ورغبة كل واحد في الحاق الآخر به وليس التفاعل معه، هي التي ميزت المسيرة الوطنية لمجتمع السياسة منذ فترة الأحادية، وازدات قتامة بعد توقيف مسارات التحول الكبرى الثلاث (الانتخابي، السياسي والديمقراطي) ومعاودة منظومة خطيئة صائفة 1962 احكام قبضتها على مجتمع متغير متنوع متعدد لا يستقيم مع تفكيرها المُعلب وروحها الغنائمية في السياسة.

محمد لعقاب الذي بات محل سخرية الأسرة الأكاديمية بذلك التصريح الشهير، الذي انتصر فيه للعسكرية السياسية، وللثورة المضادة، ولمسار التغيير الشعبي، جسد نهاية المتعلم والمثقف الذي انجبته جامعة السلطة المهيمنة على سلطة الجامعة، وبذلك كشف عن قطيعة أخرى يتوجب الحقاها بجملة القطائع التي صنعها وعي الحراك كأودات حاسمة في مسعاه التغييري الجذري، وهي القطيعة المعرفية مع النظام وجنوده (الاكاديميين).

إذ تجدر في الأخير الاشارة إلى أن بعض المتعلمين المتعالين، ظهروا، لأغراض وطموحات شخصية لا غير، طاعنين بدأب شديد في شرف المعرفة والعلم، من أجل وهم يعضون في عز المد الحراكي الثوري الشعبي خدماتهم على السلطة، بدلا من أن يعرضوها على الشعب، في تعامل مع المجتمع بعقلية القطيع الواجب إدارته بلا إرادته، خارج منطق السياسة وفضائل الحرية والديمقراطية، قبل أن تكشف سير الأحداث، وصراعات السلطة الداخلية أنهم كانوا برؤاهم وتقديراتهم للمشهد السياسي، أدنى بكثير ممن هو أدنى وعيا في مجتمع الثورة الحراكية.

بشير عمري

كاتب صحفي جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici