https://alsiasi.com/
بشير عمري
مرت بالجزائريين أمس الذكرى الثامن عشر لرحيل رئيس الحكومة المؤقة وأول سلطة شرعية للجزائر المستقلة تمت الاطاحة بها بالقوة العسكرية سنة 1962، يتعلق الأمر هنا طبعا بالشخصية التاريخية الكبيرة بن يوسف بن خدة، ذلك المثقف الجامعي الذي حافظ ما استطع على هيبة وشرعية ومحورية السياسي في تاريخ النضال الوطني، بعد إذ داست آلية العسكرة كل مساحات الوعي الوطني وصادرت تاريخ وفكر الأمة فيما وصفه الزعيم فرحات عباس في كتابه الشهير بـ (الاستقلال المصادر).
وإذا كنا قد تعرضنا في غير ما مناسبة لمآثر الرجل في جزئية من جزئيات مساره النضالي الطويل والمستنير، فإننا سنعمد هنا إلى محاولة فهم موقفه من فترة ما بعد الاستقلال بوصفه مسعى للحفاظ على معنى السياسي الذي أسس بوعيه للحركة الوطنية وللكفاح المسلح قبل آن تجرفه آلة القوة العسكرية وينردم تحت غبارها مستحيلا إلى واجهة بعد أن كان (السياسي) هو رائد العمل الوطني.
وهنا تفرض طبيعة الاشكال القول بأن الكثيرين يجانبون الصواب في محاولة فهم المواقف السياسية من الاستقلال الذي اتخذته عديد الشخصيات السياسية، والتي في مجملها تضاربت وتناقضت وفي أحسن الاحول تعددت واختلفت فيما بينها، والحديث هنا عن الساسة الفعليين من ذوي المبادئ وليس من ذوي المئادب، شخصيات أصابت وأخطأت عن حسن نية في تقديرها للاوضاع التي تقلبت وتزاحمت فيها الرؤى بعد دخول جيش الحدود في معادلة الشرعية وقيادة دولة الاستقلال، إذ نرى في القراءات البعدية (بعد الاستقلال) لهذا المشهد القاتم المعتم من التدافع والتصارع حول غنيمة الحرب (السلطة وليس اللغة الفرنسية كما يُشاع) من يخطّئ أو يُجرِّم حتى، بعض المواقف على أساس أنها أسهمت في “تطبيع” حكم العسكر باختيارها قبول سلطة “الأمر الواقع” التي فرضها واقع القوة وقتها، ومن بين الذين مستهم ألسنة النقذ والسوء حتى، فرحات عباس الذي كان قد قدّر في حساباته بأن القوة التي كانت في جانب الطرف المعتدي على الشرعية، يمكن معالجتها حالما تأخد الأمور سياقها الطبيعي ونسقها المؤسسي في دولة الاستقلال، قبل أن يدرك خطأ تقديره ويعود للمعارضة التي ستكلفه الرمي في الصحراء.
مثل هكذا مواقف، التي جابهت خطيئة التاريخ، هي من أهدى وأعطى بذرة الوعي المدني والسياسي للاجيال اللاحقة باعتباره وعيا مختطفا ومغتصبا، وبن يوسف بن خدة برفضه المضي في مخطط تقويض مشروع الحركة الوطنية التحريري والتحرري، كان في ذلك بمثابة المعلم المضيء في عتم الازمة المفتعلة حول الشرعية، المعلم الذي ظل العقل الوطني ينظر إليها كاتجاه حقيقي وصحيح عكس الاتجاه الذي حاد به المغامرون بالشرعية عن صراط الاستقلال المستقيم، والذي تؤكد كل شواهد الحاضر أننا ندفعه ثمنه غاليا حاليا.
فالرجلان بن يوسف بن خدة وفرحات عباس، وبعد أن فرق بينهما التقدير الشخصي لكيفية حلحلة أزمة صائفة أو بالأحرى عاصفة 1962، ألتقيا على صعيد واحد سنة 1976 في معارضة التصحيح الخاطئ للمسار الذي دشنه نظام الراحل بومدين من خلال طرح الدستور والميثاق الوطني للاثراء، فاعتقل مجددا في مقري سكنهما (لاقامة الجبرية) وأقصيا للمرة الثانية من نقاش إعادة البناء الوطني وهما من هما في تاريخ الأمة وفي انبثاق العقل السياسي الوطني !
واصل النظام صلفه وعناده وعنته في قيادة الأمة إلى المجهول، في أفق عشوائيته في التصور والتسيير، وحينا ثار عليه الشعب الذي كان يرتهنه بأحاديته في أكتوبر 1988 خرجت الأصوات الشريفة مجددا لتلتحق باللحظة المستنيرة التي أسس لها موقف بن يوسف بن خدة سنة 1962 أي لحظة التذكير بخطورة مبادرة العصف بالشرعية ولوائح الحركة الوطنية، من مثل عبد الحميد مهري، الذي أراد أن يترجم تلك اللحظة (البن خدية) إلى الواقع التعددي الجديد، انتصارا للسياسي وإعادة الاعتبار والهيبة له بوصفه مفجر الوعي الوطني الأول، وحاول أن يعيد لحزبه جبهة التحرير الوطنية سيادتها واستقلالها عن الهيمنة العسكرية، واتضح ذلك بجلاء في خطابه الشهير أمام اللجنة المركزية سنة 1995 يوم قال “الرئيس (ليامين زروال) اختار أن يترشح حرا، له ذلك، ولكن ليس من مهمة جبهة التحرير الوطني أن تمنحه قاعدة اجتماعية” بمعنى رفض مواصلاة أو العودة إلى ستعمال الحزب مجددا كواجهة لسلطة فعلية تقف في الخلف، فكان جزاء الرجل ما كان من إقصاء وتنكيل وتشريد، والأكثر من ذلك كله تخوين.
إذن الملاحظ أن السياسي الفعلي الذي ظل متصلا بأساس الشرعية وشعلتها الأولى ممثلة في بن يوسف بن خدة وحكومته وبقاء هذا الأخير على موقفه الشجاع الرافض لاغتصاب السلطة والعصف بالشرعية والدوس على مواثيق الحركة الوطنية، قابل لكل مراجعة تفرضها الظروف، لأنه وزائد كونه ذو مبادئ، فهو يحمل عقلا سياسيا مرنا يتيح له المقدرة على التمدد في التاريخ والسياسة في كل الاتجاهات، وهو ما يحمي الأمة من طغوى فكرة أو قوة أو رؤية أحادية تحملها جماعة تختزل العالم في نفسها.
فعند السياسي، يمكن للأمور أن تتغير والمفاهيم أن تصحح والمسارات تُرجع دون إشكال، وهو ما تحقق في تجربة المخلصين للكفاح الوطني، سيواء من النماذج التي ذكرنا وممن لم نذكر، الذين لم يروا الوطن بمنظار الغنائمية الحربية، أما العسكري فلا يجيد التفاعل مع أي من هاته المستويات في التاريخ والفكر والسياسة، لتوينه العسكري الخاص .
هي إذن التجربة الوطنية التي يخفق العقل الوطني في تحليلها ومن خلالها يمكنه حلحلة العديدة من إشكالتها ماضيا وحاضرا، لأن كل ما يعيق تمشي الأمة نحو الأفاق القامة الموعودة، هي إشكالات الماضي التي خلقتها الذاتية والمصالح الشخصية لبعض المغامرين بالوطن والاستقلال ومستقبل الأمة، الذين خانهم العقل السياسي الدقيق، فاختزلوا العالم والتاريخ في لحظة نزوتهم وغريزة الملك والتملك التي تملكتهم فاجهزوا على حلم وطن في استكمال ثورة تحرره من بعد الاستعمار، من الجهل والدجل والفقر وبناء وطن كبير نوعي متنوع تنسجم فيه التعددية وروح الاختلاف دون خلاف.
واليوم إذ نحتفل بالذكرة الثامن عشر لرحيل زعيم وطني حمل في سراديب ذاكرته الكثر مما يسر ولا يسر في القصة الوطنية، سنظل مجبرين على النفاذ إلى تلك السراديب لمحولة فك طلاسم الحاضر، ومعرفة من هو السياسي الذي اغتيل أحيا، وباغتياله أفل الحلم وذبل الأمل في بناء وطن كبير، لأن ما يحضر من ساسة اليوم ليس سوى سوق موازي يعبث فيه المتسيسون بمصالحهم الشخصية بمصير البلاد والأجيال.
بشير عمري
كاتب سياسي جزائري