الحراك ثورة اليوم وتاريخ الغد

0
170

كلما بسط الحراك بإرادته السياسية بوصفه وعي جديد وليس حركة مطالب إجتماعية فجرتها الحاجة اليومية المتعثرة في سياسات دولة أفلستها منظومة حكم فاسد، كلما طلعت من هنا وهناك أصوات شاذة لا تريد أن تتصل أو تتواصل مع التاريخ الوطني ونضال الشعب من أجل إعادة بناء ما تم تدميره من قبل أولئك الذين احتكروا مفاهيم وآليات العمل السياسي والوطني بعدما سيطروا على السلطة صبيحة الاستقلال.

فهل تدرك مثلا الأحزاب حقا أن ما يحتاجه البلد اليوم ليس فقط الاكتفاء بمحاولة تقويم العمل السياسي وتحريره من التوجيه والاحتكار، وإنما قبل ذلك إعادة تأسيس لمنظومة تضمن إنتاج هذا العمل وتضمن ديمومته وتحميه ثقافة وممارسة من أن يعود للقوع في مطب التوجيه والاحتكار؟

هذا هو السؤال الذي بات يفرض نفسه إزاء مواقف غريبة من بعض الأطراف التي تُنعت جزافا بكونها معارضة، أو تدعي هي هاته الصفة في حين تبدو دوما أقرب ما تكون للسلطة وإيعازها من صوت الشعب وبعض الجادين من قواعدها النضالية المهمشة.

عندما يتكلم الاسلاميون (النظاميون) أي الذين ساروا في مشروع دولة الانقلاب الثالث (1992) تفهم معنى أن يتأسس حزب على فكرة ظرفية واستحالة أن يتخلص منها، لأنها صارت تشكل هوية كينونته خريطته الجينية، وشاكلة اشتغال خياله السياسي، وبذلك لم يعد له من مقدرة على أن يتحرر من أثقال اللحظة التأسيسية تلك، فينبري يعيد نفس الخطاب (المشاركة في مؤسسات الدولة، الحفاظ على الاستقرار والدفاع عن الهوية في مواجهة المشككين في بيان أول نوفمبر).

مثل هاته الأحزاب وهاته التيارات، صارت بحكم تكلسها وبقائها رهينة لحظة وفكرة التأسيس الأولى، معنية مباشرة بالتغيير الثوري الحراكي شأنها شأن النظام الذي استحال عليه التغيير لأنه نبتة غريبة وشاذة في تربة التاريخ الوطني، فلم يعد مبررا بقاء تلك الأحزاب، بل إن بقاءها تماما مثل بقاء النظام بات خطرا على المجتمع وعلى الحقل السياسي الوطني.

من هنا تبرز للعيان معضلة ما تسمى بالأحزاب الاسلامية في الجزائر، فهي تقع في مثلث وجودي مغلق يحول دون تقدمها وتطورها، مثلث الحركة، الهوية والسياسة، وتبدو غارقة في معاناة التوفيق بين هاته العناصر الثلاث ولعل هذا ما أسقطهم في أكثر من تجربة ديمقراطية في الخارج بعد الربيع العربي، أعظمها كان ذلك السقوط المدوي في مصر بعد أن تكالب على التجربة الثورية المتحالفون من الثورة المضادة والعسكر.

إذن على المثقف السياسي من هذا التيار أن يدرك بأن السياسة ليست من المقدسات التي يحرم فيها الاعتراض كما يحرم في أساسات العقيدة، وأن الزعيم أو القائد يطاع أو يتبع في نطاق المؤسسة الحزبية سياسيا أي زمنيا وإمارة الجماعة وليس طاعة لولي الأمر الذي تتلبس بإشكاليتها الفقهية على الكثير من القواعد النضالية البسيطة لهذا التيار الذي يعجز عن الاندراج في النموذج السياسي المعاصر شكلا ومضمونا أي مؤسسة (حزبية) وخطابا، فهو في الظاهر يتحزب لكن في الباطن يكفر الحزبية (التقية) يتحدث عن الديمقراطية في خطاب العلن ويكفرها على مستويات إنتاج المعنى وفق آلياته الفقهية والتفكرية (التكفيرية) البالية القديمة، وهذا ما يجعله دوما محل استرابة من جل الشركاء في الحقل السياسي، ويجعله شاذا عن الجماعة الوطنية وقابلا للترويض من الجهات الفاعلة في النظام.

وعليه فيمكن القول أنه بات واضحا عدم ثورية هذا التيار وعدم حراكيته بالمرة، حتى لا نترك الأجيال القادمة في حيرة أمام أسئلة التاريخ كما حدث بشأن حقيقة مشاركة جمعية العلماء المسلمين في الثورة من عدمها، بين خصومها وأتباعها، فاليوم تشهد موقف جل هذا التيار، عدا أصوات فردية غير مؤسساتية، مثل الشيخ علي بن حاج المتبصر بالتجربة والدكتور أحمد بن محمد المستنير بالمعرفة، بأنه تيار ظل متحفظا من الحراك الثوري، نابذا لمطالبه التأسيسية للجمهورية الجديدة الحقيقية، مائلا لطروحات السلطة، باعتبارها تضمن الحفاظ على (الهوية) وتقي الدولة من سيطرة فكر الدشرة كما قال أحدهم بغير حياء، متناسيا بأن تلك المداشر هي التي قامت الأطلسي وحمت الهوية وعيا ومظهرا، وأن بيان أول نوفمبر لم تكتبه نخب الجامعات الباردة بالصالونات الصاخبة بالكلام السياسي الفارغ، وإنما كتبه أبناء هاته المداشر في دشرة مقدسة بأقداس الوطنية التي لا يستسغ أبجدياتها  هؤلاء ولا يفهمون لها بعدا لا في التاريخ ولا في الجغرافيا.

بشير عمري

كاتب سياسي جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici