من الاحياء إلى الالهاء.. منقلب ثورة صحافة التعددية بالجزائر

0
1781

https://www.raialyoum.com/

بشير عمري

في خضم كل مظاهر هاته الاحتفالات بإنجازات كرة القدم التي عاشها الشارع الجزائر نهاية العام المنصرم (الكأس العربية) وبداية العام الحالي (الكأس الافريقية)، قفزت بالشعب ذاكرته عن محطات مهمة في تاريخه السياسي، شكلت بتداعياتها جزاء كبيرا من آلامه الصارخة اليوم وحطام آماله وأمانيه التي عصفت بها أمواج من عنف غير مسبوق تحركت رياحها من مناطق بعيدة من تاريخ قلقه الوطني ومشكلاته التاريخية والسياسية، كذكرى انتخابات 26 ديسمبر 1991 التي لا يزال الملاحظون يعتبرونها الوحيدة الأنظف والأنزه قبل أن تستحيل الأذبح والأسلخ، في تاريخ البلاد من بعد اقتراع تقرير المصير سنة 1962، ثم ما تلاها من وقف للمسار الانتخابي في 11 جانفي 1992 ودخول البلاد نفق مظلم لم تفلح كل المساعي الملتفة عن أسبابه الحقيقية في خطب السياسة والاعلام في محو أثاره السلبية إلى اليوم.

في ظل هذا كله ما الذي جعل الذاكرة تضيع وسط صخب كرة القدم ويسقط الماضي المشتعل الممتد بنيره ووهجه إلى الافاق البعيدة ممهدا السبيل لوعي جديد بمسائل الحكم والوطن والوطنية؟

لا جرم أن سلطة الاعلام وسطوته على الضمائر تبدو أكثر من بارزة، فرغم ما وفرته تكنولوجيا الاتصال والتواصل اليوم، من أسباب التحرر من ربقة الاقتياد الإعلامي الرسمي الذي كانت تعتمده النظم السياسية المُعلبة المتلاعبة بوعي الشعوب، إلا أن قوة وسائل التلهية ووفرة وقودها (المال) أصبح يشكل “اقتيادا نعاما” وشبه اخياري للضمائر وتعطيلا ذكيا لمجرى ومسرى الوعي في سبيل اكتماله.

في الجزائر كان الاعلام وأخصه ذكرا الصحافة السياسية الأقوى إقليميا في صدر الانفتاح والتعددية بعد أحداث أكتوبر 1988، يوم تحرر العقل الوطني من قيود واقتياد الخطاب الرسمي الأحادي وصار يبحث عن معنى آخر لوجوده الوطني، بحث وسعي حثيث جعله يرتد إلى أغوار السنين بل والقرون ليعرف مأتاه ويستشرف منتهاه، فأصبح التدافع على الأكشاك والمكتبات ونقاط بيع الصحف والمجلات ظاهرة مسجلة والمرصودة في كل المناحي والنواحي بالبلاد!

الأمر صار إذان، مبشرا بتوطيد وتوكيد القطيعة النهائية مع الوعي الخاطئ بالوطنية الأولى المفروضة والتي تشخصنت وتحزبت وتدنست بأقداس الزعامة المارقة عن الحقيقة، وبدأ العقل الوطني يعيد تركيب نفسه وفق معطيات الحقيقة الجديدة المتجلية، عبر إيقاع متسارع ولكن أخطاء ساسة جعل التعامل معه متسرع وهو ما حرف مسار العهد الجديد عن سكته بإعطاء الذريعة لأعداء التغيير والعهد الجديد بالانقلاب والنكوث على كل تعهدات تيار الإصلاح في السلطة!

كانت فعلا ثورة قلم قد بدأت بهدوء العقل ورزانة التجربة تشق طريقها نحو إعادة نمذجة الوعي السياسي والوطني وتفرز مواطنا جزائريا قابلا ومستعدا للمشاركة السياسة بخارطة إدراك سياسي صحيحة ومتحررة من كل اكراه وجبر أيديولوجي أو أمني.

كان الإنجاز كبيرا والتحدي أكبر، والتنوع والاختلاف مشتعلان في سجالاتهما وجدالاتهما ليس في الساحات ولا في الميادين أو الجبال بل على صدر الصحف بين كل التيارات والسلطة وبين السلطة ونفسها وبين التيارات المعارضة أيضا فيما بينها، ولا أمثل فضاء نتصوره من هذا كي يتربى ويتقوى الوعي الجديد بالمسألة الوطنية، إذ كان القارئ وقتها يرى كل البضاعة الأيديولوجية والسياسية معروضة أمامه على تلك صدر تلك الصحف منشورة والمنتشرة في كل مدن، قرى ومداشر البلاد.

وإذا بغيوم الشؤوم تلبد سماء الجزائر شتاء 1992 وترتكس التجربة عبر بادرة خطيرة تمثلت في وقف، ليس فقط المسار الانتخابي كما يشاع، بل كل مسارات استكمال نشوء الوعي الجديد الذي تحتمله المرحلة الجديدة الموسومة بالتعددية بعد أزيد من ثلاثة عقود من الأحادية الحادية عن منطق وصواب التاريخ، وتشوه المنقلب، إذ ألبست المرحلة الجديدة (التعددية) بلباس قديم (أحادية) فعاد الصوت الواحد يفرض نفسه فقط هاته المرة عبر أفواه عدة بعدما كان يصدر من فم واحد (السلطة)

كل الصحف صارت تتهاوي أمام وقود الاشهار الذي احتكرت محطات التزود به السلطة، وشيئا فشيئا صار الاعلام السياسي يتآكل ويتعاظم في مقابله الاعلام الرياضي الكروي الذي اهتم باغتسال العقل واعتقال الذاكرة وحبس الوطنية ومفهومها في مدرجات الملاعب بعنوان الصيحة الشهير وان، تو، ثري viva l’Agérie عنوان مأساوي دال على اغتراب شامل وكامل للذات وكسوف جزئي للوعي، وانتصار مؤقت في معركة المصير الكبرى للمجتمع بين ثورة القلم التي كانت للإحياء بعد أكتوبر 1988 وكرة القدم التي جاءت للإلهاء، وإذا كان الالهاء توجها منكرا في التاريخ وبالتالي مصيره ومآله الانتهاء، فإن الاحياء يظل متجذرا مهما داسته قوى الرفض للتغيير والتحرر.

كاتب  جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici