15 décembre 2023
بشير عمري
https://www.raialyoum.com/
ســألني مرة أحد الزملاء من طلبة العلوم السياسية، لماذا لم ينجح النموذج الاشتراكي في الجزائر بعد أن ساد ب ها لثلاثة عقود؟ فوجدتني فجأة أرد عليه بسؤال مثله، وهل نجح بعده النظام الرأسمالي وقد جاوز عقده الثالث أيضا؟ فلم يعرف إن كان أولى له أن يصر على أن أجيبه عن سؤاله أم أن يجيب هو عن سؤالي، والسبب في ذلك أرجعه شخصيا إلى قتامة المشهد وعدم القدرة على الادراك الوضع العام في سياقات التاريخ والطرائق الانقيادية التي تي خضع هكذا مجتمعات ذات ثقافة ما قبل الدولة بمفهومها الحديث.
كنا قد أشرنا في غير ما مقام إلى أن المجتمع الجزائري عصيا عن الاخضاع وفق منطق السلطة لأحقاب عدة ، بعضهم أرجع ذلك إلى طبيعته النفسية والبعض الآخر الى التركيبة الاجتماعية وتلازمها مع الجغرافيا التصعبة الصعبة ي فرضت نمطا من القيادات التقليدية لا تزال اليوم تشكل مستوى من السلط الاجتماعية ولها سلطانها النسبي الوظيفي في العملية السياسية في أقسام عدة من الوطن كتأكيد للطبيعة الريفية لهذا المجتمع .
إن إضفاء الطابع الريفي في التحليل السوسيولوجي أو السياسي على أي مجتمع لا يعني بالضرورة تحقيرا له أو تصني فه ضمن المجتمعات المتخلفة أو تلك المستمسكة ما قبل الدولة، بلعكس ثمة أمم جعلت من الخصيصة الري فية مرتكزا حيويا في بناء قواها وقواعدها الاقتصادية، فشمال أوروبا تهيمن دوله كهولندا وإسكندينافيا كالدنمارك، على الاقتصاد الفلاحي بشقيه النباتي والحيواني مع تطورها الكبير لى الصعيد الت كنولوجي.
هذه المحافظة على الطبيعة التكوينية والبنية الخاصة للمجتمعات لم تكن سوى وليدة عقل نبت من الربوع تلك وتفا عل ومعا ولم يستثنها من آليات البحث والتدبير والتسيير في عملية صياغة المشروع الوطني.
إن افتقارنا العضوي لعقول متأملة في مجتمعها وخصائصه ومتألمة بآلامه هو ما يضعها موضع التجريد والتجر يب المستمرين معا في محاولات ليس لاستدراك الذات وإعادة اكتشافها ومن ثم معالجتها بما يليق وإنما لاقتيبادها لشكل القطيعي والقطائعي.
للوعي الاجتماعي بالجزائر، شكلت ملمحا كبيرا من التناقضات الداخلية، حالت دون تجاو ز مسببات البقاء في دائرة الازمة الازلية، والانتقال إلى أفق اجتماعي وسياسي آخر، ففي الوقت الذي تشير في في طابات النخب إلى الحقبة الاشتراكية كسبب مباشر لفشل مشروع دولة الاستقلال، لا زال الضمير الشعبي متصل بكاريزما الحقبة تلك أي الرئيس بومدين، واختزال الماضي والحاضر والمستقبل في شخصه م ع النقمة التامة على كل المؤسسات التي أدارت الشأن العام والتي كانت تحت قيادته تمضي وتشتغل!
لقد بنى بومدين مشروع دولته على التصنيع (الاشتراكي) للمجتمع (الريفي) من أجل تحديثه بالقوة والسرعة القصوي ين، في وقت لم تكن ريفية المجتمع فقط ذروتها الفطرية بل وكانت كموقف متبنى للحياة وللتاريخ، فالاستجابة لم تكن أكثر من فوقية لهكذا مشروع ظل مذ تبنته نخب السياسة ورجالات الحركة الوطنية قبيل وبعيد الاستقلال تجريديا استحال تأصيله في الأعماق الشعبية والاجتماعية للبلد، ف لازمت الاشتراكية الريعية كنمط تسييري اقتصادي، الإشكالات التاريخية للسياسة في الجزائر وبنية نظامها السياسي وم شاكله فسقط المشروع (1988) من قبل أن يسقط أمثاله في أوروبا الشرقية (1989).
لكن الراصد لخطاب التحولات الجزائرية مذ انقلب البلد سياسيا وصوريا في ظروف غير عادية من الأحادية إلى التعددية ، لا يكاد يلمس الإشارة إلى الخصوصية الجزائرية في الانهيار الذي لحق مشروع الاشتراكية، ويصر على ربطها بالان هيار الأعظم الذي حدث في يسار العالم بشكل عام، وهذا توجه في التحليل والتقييم يزيد من منسوب الضبابة لدى كل متسائل عن طبيعة المشروع الذي تمضي على تفاصيله وأسسه الجز ائر اليوم.
من هنا نلج غمار الإجابة عن سؤال أسباب فشل مقدمات النموذج الرأسمالي الذي تحولت إليه الجزائر، تلك الرأسمالي ة التي لا أرى لتوصيفها صورتها المشوهة أدق من تصريح صحفي سابق للوزير عمارة بن يونس أنكر فيه على الجزا الجزا ئريين رفضهم وعدم تقبلهم لوجود طبقة غنية في المجتمع، هذا الرفض له خلفياته السوسيو- ثقافية والسياسية، إذ أن المجتمع الجزائري يعي تاريخيا طبيعة بناه الاجتماعية والاقتص ادية وبالتالي فأنه يدرك بأنه لا أصول رأسمالية لديه وكل الذين ظهروا من رجال المال والاعمال إنما هم نتاج العم ية السياسية (المغلقة) وليس نتاج العملية الاجتماعية او الاقتصادية في خالص تطورهما الطبيعي، والدليل هنا هو سقوط جل تلك الرساميل المصطنعة بعد حراك 2019 byعد أول أزمة نفطية حدثت في العه د الرأسمالي الجزائري (2014) كتأكيد لفوقية التحول وبقاء الاقتصاد متلازما للريع النفطي كما كان عليه الحال في العهد (اشتراكي) فوجد عتاة الرأسمالية الجزائرية الاصطناعية أنفسهم خلف قضبان السجون.
لكن لا يقوى النقد السياسي اليوم على المجاهرة والتأكيد على سقوط المشروع السياسي والاقتصادي الرأسمالي في أي بق عة من المعمورة فضلا عنه في الجزائر لأنه عبثا التصريح بذلك طالما أن الرأسمالية هي النموذج الفكري والسياسي ال مسيطر عالميا، وهي نهاية التاريخ والانسان كما أشار إلى ذلك فرانسيس فوكو ياما، وبالتالي أي حديث عن سقوط المشروع بتجربة وطنية ما، هو بالضرورة حديث عن سقوط الدولة ووقوعها خارج التا ريخ، من هنا فكل تحليل للتجربة الرأسمالية سينتهي في محصلته إلى تحميل الانسان مسئولية الفشل وليس لعمشرو الرأسمالي في حد ذاته الذي صار معصوما بوصفه منتهى التاريخ، على العكس منه مع النموذج الاشتراكي الذي بمثل القدر الذي ينافح ويدافع عنه أصحابه بالقول أن العلة ليست كامنة فيه كمبدأ بل في من حاولوا تطبيقه، يهاجمه أعداؤه هو العلة بذاتها في مضمونه وتفاصيل فلسفته.
لكن كخلاصة، يظل إيجابيا التساؤل حول مرتجع التجربة الوطنية وعن أسباب فشل مشروع دولة الاستقلال ومحاولة فهم ما الذي حصل، عسى ذلك أن يفتح أفقا آخرا للنقاش حول بشأن ضرورة الوعي بالمسألة الوطنية في كل أ عادها المترابطة السياسية الاقتصادية والاجتماعية ما سيفضي بالضرورة إلى ميلاد نخب جديدة متجذرة في الحقيقة الاجتماعية للبلد تطرح مشاريع بعيدة عن الفوقية والتجريد.
كاتب جزائري