بشير عمري
https://alsiasi.com/
في موقف عُد الأول من نوعه في تاريخ القضاء الجزائري، يقدم قاض على الاستقالة لرفضه قبول الاملاءات والتدخل في وظيفته من قبل الجهات التنفيذية المؤثرة على كل السلط الأخرى كالتشريعية وسلطة الاعلام الرمزية الرابعة، موقف، إن كانت له حقا من دلالة عميقة، فإنما يدل على مدى قوة الوعي التغييري العتيد والجديد الذي بلغه المجتمع الجزائري على مختلف صعد شرائحه، كما ويدلل من جانب آخر على قوة ثورة الحراك في المطالبة بتجسيد هذا التغيير لاحداث النقلة الحتمية للمجتمع والتي دونها ستظل حالة الموات التام للبلد مستمرة ومخاطر ذلك لا يمكن حصرها أو احصاؤها ولا حتى تقدير حجم الدمار الذي يلحق بالبلد مستقبلا في خضم دولي متسارع إيقاع أحداثه ونسق تطوره الشامل.
القاضي سعد الدين مرزوق، الذي بات يحظى بشعبية واسعة في جميع الأوساط، هو عيينة لنموذج جديد من النخب التي صارت تتمرد على أساس قيام النظام السياسي البالي في الجزائر، وما أحدثه ذلك من أضرار على كل المستويات، من خلال هيمنته الوصائية على كل قطاعات وسلط المجتمع الفردية والجماعية، الرمزية والوظيفية، بحيث تعطلت بسببها كل العبقريات الجمعية، وتكبلت الارادات وقمعت المبادرات، فاستحال المجتمع إلى ساعة مذهبة معطلة على جدرا خرب!
لا ينبغي أبدا النظر إلى ملف هذا القاضي الشريف، كظاهرة فردية معزولة، مثلما تم النظر إلى قضية بن يوسف ملوك الذي فضح القضاة المزيفين الذي كان يتم تعيينهم خدمة للوبي المستحكم في مفاصل الدولة والمجتمع ككل، ذلك لأن مصيبة العقل السياسي في الجزائر، هو عدم قدرته على مركزة ومحورة الاشكالات الكبرى من خلال الانتقال بها من النضالية الفردية إلى التأسيس الجمعي، فيكتفي بالاعتراف البطولي للمبادرات الفردية، دون وضعها في سياق التغيير كمنطلق ومرجع لعدم العودة إلى القهقرى!
صحيح أن الاعلام الذي يفترض فيه أن يسهم في هكذا توجه، أي إعطاء المبادرة الخييرة والحكيمة ما تستحقه من تغطية ونقاش، كونه إعلام محتكر ويقع تحت رحمة سلطة التنفيذ من خلال مُرتزق الاشهار، لكن هل يظل المجتمع في عهد الاعلام المفتوح رهين هذا الوضع، ويعجز عن تجاوزه حتى في ظل الحضور القوي للنخب البديلة والمعارضة في ذات الوقت؟
هذا السؤال هو في حد ذاته مبعث للحديث عن شاكلة تعامل النخب المعارضة مع منتج اللحظة الثورية الحراكية، والتي من أهمها ظهور قاض شريف فضح ورفض التبعية القضائية للجهاز التنفيذي.
ففي عرف الأمم التي تعيد تأسيس حضورها الصحيح في التاريخ، تبرز النخب أكثر اشتغالا على ما ينتجه المجتمع المحتج من أفكار ومبادرات لتخلدها في مسار الوطنية الموضوعية الصحيحة بعيدا عن الخطابات الشللية، الايديولوجية والوطنيات الكاذبة، فصرخة إيميل زولا j’accuse لا تزال مدوية في أدبيات صراع المثقف مع سلطان التنفيذ والنفاذ، في حين نكتفي نحن بإطراب أنفسنا وإبهارها بالقيمة السامية للمبادرة الفردية دون التأسيي التغييري عليها.
فهل تقل عبارة سعد الدين مرزوق “إما مستقل أو مستقيل” بلاغة أو بطولة أو مضمونا تاريخيا من مقولة زولا وغير زولا، حتى لا تستثير العقل النخبي المعارض الذي مع كل أسف لا يزال بعيدا عن قوة الدفع الكبيرة التي منحه إياها الحراك الثوري الشعبي قبل عامين؟
لو قال عبارة سعد الدين مرزوق تلك أي قاض في بلد أوروبي لنصبت له التماثيل، ولجُعل في مراجع المثالية الوطنية أسبق ن كل زعماء الحروب والسياسة في بلده، ليس فقط لبلاغة العبارة، بل لعمقها ولحيوية منصب ووظيفة الرجل ومحوريتها في بنية المجتمع الحديث.
من هنا يتضح لنا أننا على صعيد النشاط النخبي، لا نزال نتخبط في الاستلاهم والاستوهام النظري من الغير، ولم نتحول إلى مرحلة الانجاز الذاتي للمبادرة الخاصة التي تفرزها العبقرية الوطنية، لاعتقادنا أن أزمتنا تنحصر أساسا في أننا لسنا فقط كالاخر من منطلقات هذا الآخر التأسيسية لتاريخه الخاص، وكأنه لا يمكننا أن نفرز نموذجنا من مبادرتنا الخاصة.
إذن واضح أن قضية القاضي الشرف سعد الدين مرزوق قد كشفت أمور سلبية عدة في عقلنا النخبي أبرزها ظآلة وهزالة خياله في الاشتغتل على منتج الشارع السياسي، من أفكار ومبادرات جديرة بأن تُستلهم وتُرمَّز، سواء في نومته الأولى أي قبل الحراك أو في قومته التاريخية منذ 22 فبراير 2019، وعليه يتوجب النظر في طبيعة اشتغال هاته النخب التي لا طالما اهتمت بنقد الشعب وانتقاده، ويوم حررها، ظهرت أنها كانت أولى من دونها بنقد وزانتقاد رؤاها وشاكلة تصورها لحركة المجتمع والتاريخ.
بشير عمري
كاتب سياسي جزائري