حسين آيت أحمد الحاضر الدائم في فراغات السؤال الوطني بالجزائر

0
1793

بشير عمري

https://www.raialyoum.com/

مرت بنا الذكرى السادسة لوفاة الزعيم الوطني الجزائري حسين آيت أحمد، مؤسس أعرق أحزاب المعارضة لمرحلة ما بعد الاستقلال (جبهة القوى الاشتراكية) في ثورة على مصادرة ثورة وثمرتها الأغلى الاستقلال بمنطق الزعيم الآخر فرحات عباس.

في هاته المناسبة، عادت إحدى الصحف الفرنكوفونية في الجزائر إلى الذكرى وتساءلت في عنوانها بالبنط العريض على صدر صفحتها الأولى “ما الذي تبقى من معركة الرجل” تساؤل يحيل بالضرورة إلى مسار هذا الزعيم النضالي وأثره على تطور الفكر السياسي الخاص منه (الحزبي والمناطقي) والعام (عموم العمل السياسي والوطني)، وكيف استطاع أن يقلب المعادلة ويفرض نفسه كرقم صعب فيها رغم كل محاولات حشره وحصره في منطقة الانتساب “الأقلوي” والتمردي على الوحدة الوطنية أو كما حرصت الدوائر الرسمية على محاولة تأكيده.

هي معادلة صعبة جدا وأحيانا أرى أن العقل السياسي الجزائري لم ينضج بما فيه كفاية ليعاود دراسة تراثه وأثره التأسيسي، لسبب بسيط هو أنه مثقل بخطاب التضليل التاريخي الذي تفرضه الإرادة الرسمية على المعرفة، والاستهلاك الإعلامي غير الرشيد.

حسين آيت أحمد واكب مسار تطور “الوطنية” الجزائرية من بدايتها حتى نهايتها، وهو بذلك اختلف عن الأجيال التي تلاحقت ولكنها ما تلاقحت أبدا فيما بينها ولا تلاحمت لأنها لم تجد محضن للوطنية غير “الحزب الواحد” الذي كان أقل وأضعف محتوى وشرعية من أن يلعب دور الالحاق والتلقيح الوطني لتيارات تبحث عن الذات في المعرفة المجردة والتماثل مع تجارب الغير أكثر مما تبحث عنه في التاريخ الوطني لسبب بسيط وهو زيف هذا التاريخ وتسيسه.

وحين نحاول فهم سمات تطور مفهوم “الوطنية” انطلاقا من تجربة الرجل، نجد أنفسنا بإزاء لحظة من التوازن الغريب العجيب الذي حققه الزعيم حسين آيت أحمد بحضوره الكاريزماتي ووفق مبادئ الشخصية البربرية الجبلية ذات المنزع الرجولي، ولكن المتشبعة بثقافة الانتماء الشامل للتاريخ والجغرافيا الوطنيين.

يمكن رؤية المسألة من زاوية صراعه مع من أرادوا حصاره داخل فضاء المنشأ ومنطلق الانتماء الثقافي الخاص للتقليل من مساحة انبساط وتمدد ظله الوطني الطويل على كامل رقع وربوع الوطن، ما يجعل الشعب يشكك في نضاله من أجل تصحيح مسار الاستقلال، وأبرز ما تم زرعه في طريق نضاله كان تقسيم المكان (منطقة القبائل) لتقزيم المطلب (التغييري) فتم انشاء حزب آخر بالمنطقة لا يتقاطع سياسيا مع فكر حسين آيت أحمد بل يقطع معه، وبالتالي سيجبر وفق آلية الاستقطاب التي فرضتها الدوائر باستحداث هذا “الربيب” الزعيم وحزبه على تغييرات في ثوابت الحزب نفسه بغية التناسق مع تطور “الوطنية” في خطابها الجديد على مستوى منطقة القبائل بحد ذاتها.

فالمعلوم أن الفكر ااسياسي القبائلي إلى غاية ما بعد الاستقلال كان وطنيا في السياسة اشتراكيا في الأيديولوجيا، على غرار كل التيارات التي أسست لمفهوم الوطنية الأولى، بيد أنه بعد الانفتاح الذي حدث في أكتوبر 1988 أريد لهذا الفكر السياسي (القبائلي)  أن يحضر من خلال (الأرسيدي) بعناوين أخرى وفق حاجة من أرادوا ذلك، فكرا جهويا (الثقافة) وعلمانيا كبديل لأيديولوجية الاشتراكية (الديمقراطية)، هكذا تشكُّل جديد أُريد للفكر السياسي القبائلي أن يمضي عليه، جعل الرجل الزعيم، حسين آيت أحمد دقيق في تحركه، يكبو مرة وينهض مرة أخرى، كما لو أنه كان لا يزال في مراحل عمله النضالي الأولى على رأس المنظمة الخاصة، أو في صراع السياسي مع العسكري أثناء الثورة أو في فترة تمرده على مصادرة الاستقلال.

فليس بالأمر السهل مطلقا، ان تواجه منظومة تفكير سياسي خفية تعمل على قيادة دفة العمل السياسي من وراء حُجب، وتوظف قدرات وإمكانيات هائلة، تستطيع من خلالها اخترق كل الحصون والتحصينات الخاصة.

صحيح أنه دُفع إلى مناكفة خاطئة مع أطراف التغيير الأخرى، التي لم تكن من جانبها هي أيضا، عليمة بما يُحاك لها وبها، ونعني بها القوى السياسية الإسلامية ذات الحضور الشعبي الكبير في الشارع، فحرك مسيرة ضد قانون التعريب كان الهدف من سنه ليس سوى هذا الأمر تحديدا احداث الشرخ وتعميقه ومنع أي فرصة للاتفاق والاتلاف على مسألة التغيير الجذري باستثارة وتحفيز التناقضات الثقافية والعرقية والأيديولوجية، مثلما سُسن قانون آخر يفجر التيار الإسلامي وهو ذاك التي تعلق بتغيير قانون الانتخابات لمنعه من الحصول على الأغلبية المطلقة، فما هو مؤكد أن الرجل بحكم كونه أحد آباء الاستقلال لم يكن ليسقط في مثل ذلك الفخ والفخ الذي تلاه (مسيرة ضد نتائج انتخابات 26 ديسمبر 1991) لولا المآل الذي وصله الفكر السياسي القبائلي والرادكالية التي تم إلباسه إياها والتي يفصح ويعبر عنها اليوم من خلال “الماك” المستعمل بدقة في المعادلة الوطنية في الوقت الحاضر، ومع ذلك تدارك الرجل بذكائه الثاقب الأمر ووقف ضد المسارات الجهنمية التي كانت قد أعدت للوطن، ورفض التعيين الذي اقترح عليه على رأس البلد دون سياق ديمقراطي انتخابي شعبي، مثلما رفض الغاء المسار الانتخابي، الأكثر من ذلك تحالف مع الجبهتين الأخريين (الإسلامية للإنقاذ والتحريري الوطني) اللتان كانتا قد تفطنتا بدورهما لما يحاك للعملية السياسية من مصير وتدمير.

قد لا يتفق البعض مع هذا المدخل البسيط لرؤية جزء من عالم واسع وكبير في تجربة الزعيم حسين آيت أحمد، الذي حافظ واحتفظ بعذريته السياسية من التلطيخ والتوسيخ والتمسيخ، بفضل ثباته على مبادئه السياسية ومنطلقاته الوطنية التي تطورت مع تطور مفهوم الوطنية خارج الفكر الأحادي المعلب غير القابل للتطور، إلا أنه ما قد يُتفق عليه هو أن فكر الرجل، كما باقي أفكار عديد زعماء الوطنية الأولى والسياسة، لم يدرس بالكم والكيف الأمثلين والمستحقين، كي يعاد رسم معالم الطريق الصحيح الموضوعي للوطن والوطنية في ظل عدم الثقة في خطاب السلطة في مثل هاته المسائل المتصلة بالكينونة الوطنية منشأ ومسلكا، وعدم قدرتها على تجسيد أي شيء في هذا الاتجاه وهو ما عكسه فشلها الذريع فيما رُفع من شعار إعادة كتابة تاريخ الثورة !

كاتب  جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici