الحراك الجزائري وسط غبار اللغة

0
9353

https://www.raialyoum.com/
بشير عمري

لأول مرة نشهد حدثا سياسيا تاريخيا في الجزائر تنتقل فيه المعركة بين كل الأطراف من الفضاء العام والمؤسسي إلى فضاء اللغة، ما يؤكد اندراجه في الحقيقة التاريخية للمشكلة السياسية الأولى في الجزائر وهي نشأة، بنية وسيرورة السلطة فيها، واستمرار ذلك بالرغم من القفز على المرحل والتعجيل ببسط حلول لا تفي بغرض اللحظة أو مقتضيات الحقيقة، الأمر يتعلق بالحراك الشعبي الكبير الذي شكل لحظة فارقة في تاريخ السياسة وبدل مفاهيم عدة مرتبطة بالوطنية وشاكلة وجود وعمل السلطة والمعارضة معا.

وفي هذا السياق تحديدا عاد للظهور مجددا الوزير السابق للأعلام عبد العزيز رحابي لينشر على صفحته بمواقع التواصل الاجتماعي مقالا تناول فيه الحراك الثوري الشعبي، باعتباره حدثا تاريخيا غير مسبوق في تاريخ الجزائر المستقلة، بل ذهب إلى حد اعتباره في مطالبه ومراميه التصحيحية امتدادا للحكومة المؤقتة المقتولة عشية الاستقلال من طرف جيش الحدود الذي حل محلها في الحكم بالقوة ما زج بالبلد في قعر اللا الشرعية الأزلية.

لكن المثير فيما قاله عبد العزيز رحابي في مقاله الذي تلقفته بعض وسائل الاعلام والصحافة الناشطة في الاتجاه المضاد لخطة السلطة الرسمية على استحياء، أن حمل مسئولية ما رآه “فشلا” للحراك إلى الجنرال الراحل قائد أركان الجيش الجزائري أحمد قايد صالح بعناده وتعنته في عدم الاستجابة إلى مطالب ثورة الحراك.

فأولى الانطباعات التي قد تتشكل لمن قرأ ما كتبه وتلميحاته في هذا الشأن، هو أن الحراك “فشل” في يرتقي أو يحقق مطالبه، وهو ما أشار إليه في نقدياته المستمرة لثقافة وحركة الشعب الجزائري، كمال داود مؤخرا حين عبر عما أسماه عجز الحراك الشعبي عن التعبير عن نفسه سياسيا، مع أن الحراك بمجرد أن وصفه عبد العزيز رحابي بالحدث غير المسبوق في تاريخ الجزائر المستقلة، فهو يمتلك القدرة على التأثير المستمر في التاريخ وعيا وتوظيفا، وهذا من سمات الأحداث الفارقة الفاعلة في تاريخ الشعوب التي قد توصف بشكل بعدي أو قبلي بالثورة!

فالفشل هو عندما تعج الشوارع والمدن في أي بلد بمطالب جزئية اجتماعية أو سياسية سرعان ما تخمد قمعا أو استجابة من قبل السلطات، وقد حدث مثل هذا في تجربة الجزائر على مدار عقود عدة من الاضطراب الوطني المستمر سياسيا منذ ما أشار إليه عبد العزيز رحابي بنزع الشرعية من الحكومة المؤقتة والسيطرة بالقوة على مقاليد الحكم من قبل جيش الحدود عشية الاستقلال سنة 1962.

كما أن دواعي الاستغراب هو ما أثاره عبد العزيز رحابي من إفراد الاتهام الرئيس لما أسماه “فشل” الحراك، إلى الجنرال أحمد قايد صالح، والجميع على علم بأن الرجل قد تجاوزته كل الأطراف المعنية بثورة الحراك الشعبي، الحراكيون أنفسهم كانوا من أول وهلة ضد سلوكه الخطابي والعملي في السياق المشتعل بالساحات وقتها، رافضين مسعاه الخفي والظاهر على حد سواء، للحلول محل السلطة المُثار عليها، كما أن جهات فاعلة داخل منظومة الحكم ذاتها كانت متوجسة منه لحسابات عُصبية وشخصية لا أكثر ولا أقل.

فنقد وإدانة قايد صالح باعتباره من أفشل الحراك، يخدم كثيرا من خلفوه على كل المستويات، إذ يعمل على محاولة تصوير الحراك متوقف في تلك اللحظة “الافشالية القايدية” وهو ويجرده من بعده الحركي الثوري التاريخي، وبالتالي يرحل الحراك كإرث عملي مع القايد صالح إلى مثواه الأخير.

يأتي هذا كله في سياق الصراع حول الحراك تثبيتا ونفيا لاستمراريته الثورية من كل الأطراف، في معترك الخطاب السياسي المتواصل في الجزائر منذ 22 فيفري 2019، حيث تسعى الجهات الرسمية لوقف زحف الحراك في الوعي الشعبي وجعله أثرا بعد عين من خلال إلحاق اسمه بكلمة “الأصيل” ما يعني أن ما يحدث حاليا أو ما حدث بعد اسقاط نظام بوتفليقة ليس استمرارا طبيعيا للحراك، ما يفيد أن وظيفة هذه الهبة والحركة الشعبية كان يجب تتوقف عند حد إسقاط الطاغية السابق ليس غير.

ثم ظهر من يتحدث عن الحراك “المبارك” في مسعى لتنزيه جهة أو تيار داخل الحراك ما من شأنه يشق صفوفه وينزع عنه بعده الشعبي الوحدوي القافز عن كل انتماء نخبي أو أيديولوجي أو جهوي بعينه.

وهكذا يتضح بأن الحراك الشعبي في الجزائر قد أثبت أنه الحاضر الدائم في المسألة السياسية الجزائرية مهما سعى الساعون لاستخدامه أو توظيفه لأغراضهم ومصالحهم الضيقة، عبر تحريفه لغويا وخطابيا، بتأصيله أو تنزيهه أيديولوجيا أو إعادة قراءة أحداثه بنية قتله ونسب ذلك لأخطاء فلان أو لمحاولة تحميل “الفشل” إلى الشعب كونه لم يرتقي به وفيه إلى منازل وأبعاد الثورة السياسية الحقيقية، فمهما تناثر غبار اللغة بميدان المعركة السياسية بالجزائر لن يكون بوسعه ردم الحراك لأنه حدث ممتد بأصوله وجدوره في قاع التاريخ كما تمتد الجبال في قاع الأرض.

كاتب  جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici