بشير عمري: الكونية والوطنية في الاحتفاء بالصحافة العربية!

0
1231

https://www.raialyoum.com/
بشير عمري

بمناسبة حلول اليوم العالمي لحرية الصحافة، أثار الكاتب الصحفي والحقوقي الجزائري الدكتور صلاح الدين سيدهم، المفارقة الغريبة في التفاعل الوطني في الجزائر مع هكذا مناسبة في وقت تعيش فيه الصحافة الجزائرية في جل أو حتى كل عناوينها، حالة من الانفصام الوظيفي والانفصال الأخلاقي عن الابعاد الحقيقية لمهنة الصحافة وهذا منذ استقلال البلاد “المصادر” سنة 1962، دون الحديث طبعا عن المنزلق الذي آل إليه الاعلام دوليا فيما كشفت عنه طرائق تعامله مع الحدثين العالميين مؤخرا، أزمة كورونا، والحرب الروسية الاكرانية، اللذين عريا حقيقة “ديمقراطية الغرب البيضاء” القائمة على الانتقائية وفرض رأي ومنطق الرأسمالية العولمية الطاحنة للبشرية اليوم.

بيد أن الأيام الاحتفائية العالمية عادة ما تفتقر للصدى المحلي في هذه الرقعة العربية الصحراوية أو المتصحرة، عندما تتعلق بقضايا شائكة، مصادمة ومصادرة لإرادة النظم الحاكمة، لاعتبارات متعقلة في سوادها الأعظم بطبيعة هاته النظم المتحكمة في كل “أيام الزمان” تأمم الذكريات والمناسبات خدمة لمصيرها، ودرئا لكل سؤال يتعلق بالوضع الذي تعيشه القطاعات المحتفى به دوليا، والتي عادة ما تكون أوضاعها مزرية محليا.

ففي الجزائر مثلا، ثمة اليوم خاص بالصحافة (22 أكتوبر) والذي وضع بأجندة “الأيام الوطنية” في فترة الحكم الامبراطوري لبوتفليقة، أين تراجعت حرية التعبير لترتجع فيما بعد إزاحته بإرادة ثورية شعبية في الـ22 فيفري 2019، إلى ما قبل الأحادية أو “الجاهلية السياسية الأولى” التي غابت فيها قيم المواطنة بتغييب المواطن عن ممارسة حقه بوصفه مواطنا، الأمر الذي جعل جل الناظرين والمتأملين لشاكلة العمل الإعلامي والصحفي في الجزائر، يطرحون جملة من الأسئلة، تخص معظمها أو تختزل في جزئية مفصلية وفارقة وهي من يرفض ميلاد مجتمع إعلامي وصحفي صحيح غير مصطنع في الجزائر كما تصطنع المجتمعات الأخرى السياسية، المالية والثقافية؟

المؤكد هنا هو أن بوتفليقة لم يضع هذا اليوم الوطني للصحافة، بنية تحريريها وتأسيسا لسلطتها الوظيفية والرمزية حتى، وإلا ما كان لنظامه الفاسد ليصمد ويستمر لعقدين كاملين قبل أن تتدارك البلد الإرادة الشعبية الغاضبة فتسقطه بثورة عارمة غير مسبوقة بمثيل، بل وضع هذا اليوم زينة وتزيينا لواجهة نظامه، كما زينه وزيفه سياسيا بمؤسسات حزبية قراقوزية، واقتصاديا بعصابات مالية موالية، وبذلك تبدو مثل هذه المناسبة المصطنعة (الأيام الوطنية) كدليل دامغ على أن ما يعلنه الحاكم العربي ويعليه شيء وما يريده في طوياه ونوياه شيء آخر.

فهل تبقى حقا من داع للاحتفاء بيوم للصحافة وهي تعاني في جلها حاليا وتواليا من مطاردة قاتلة لشبح الانقراض، بما في ذلك كبريات المؤسسات الصحفية، أو هكذا كانت تبدو فيما سبق، التي ولدت عضويا ووئدت وظيفيا في الفترة القصيرة ما بين انتفاضة أكتوبر 88 وبداية الحرب الأهلية يناير 92 يفترض أنها أسست لنفسها قاعدة مقروئية واسعة، إذا لم تكن بالوسع الذي يغنيها عن التبعية الاشهارية للسلطة، فلتسع على الأقل  لحمايتها من مغبة الغلق ومغادرة سوق صحفية، لا تضبطها التنافسية المهنية، بل أشياء أخرى من جملة الأشياء التي أعاقت المجتمع الجزائري عن النهوض.

يذكر في هذا السياق مثلا، أن الكاتب الصحفي المصري الكبير محمد حسنين هيكل، كان قد رفض في إحدى المناسبات (الأيام الوطنية) تسلم جائزة حول الصحافة من الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح، مبررا ذلك في رسالة اعتذار عن قبول الجائزة بأنه لا يمكنه “قبولها من رئيس نظام يقمع حرية التعبير”!

نفس الموقف سبق لأحدهم أن قابل به نظام عمر البشير بالسودان، حيث رفض قبول جائزته السنوية لحرية التعبير وجاهز بطشه يحكم بالجلد على الصحفية لبني أحمد الحسين بداعي نشرها لـ”ووقائع كاذبة” ما حول العالم العربي وثقافة العيش فيه إلى مسخرة ومضحكة في العالم بأسره.

مثل هكذا مواقف من نخب كاتبة تتمتع بقدر من المصداقية في الأوساط النخبية والشعبية العربية معا، كان من المفترض أن تتحول هي بحد ذاتها إلى ذكرى وأيام يحتفى ويحتفل بها على مستوى المؤسسات الإعلامية العربية لتغدو علامة ثورية على واقع اعلامي عربي مذموما مدحورا في ضمير ووعي مجتمعاته.

فأي يوم للصحافة يحتفى به في الجزائر وهو من وضع وصنع نظام تمرد عليه وعلى “أيامه” الشعب في ثورة عارمة لم يسبق أن استهدفت بذات القوة والوعي أي من نظم السلطة الحاكمة منذ الاستقلال؟ أليس من المفترض أن يُراجع هذا اليوم ويسقط تمثاله كما سقطت كل تماثيل النظام الذي وضعه وتعرت كل تمثيليات عصبه وجماعاته السابقة التي وسمت بنفسها بعضها بالعصابة؟

من هنا يتضح أنه ثمة طرفان في معادلة السقوط المستمر للمهنية الصحافية والإعلامية في العالم العربي وهما نخب الحكم بمختلف مكونتها الأمنية السياسية والمالية، المهيمنة على المجتمع أفقيا وعموديا، ونخب الاعلام التي تبيع المهنة وضميرها تزلفا للحكم وارتزاقا خارج مشروعيات القانون والدين معا.

نخب لا تخوض ثورتها القطاعية الخاصة، باتخاذ المواقف التاريخية لبعض شرفائها وشهدائها حيال إرادة الحكم في شراء الضمير والقلم عبر جوائز وأيام احتفالية مفرغة من كل مضمون وموضوعية من طغاة وجبابرة، كي تصل إلى محطة النهاية في معركة تحرير الأقلام وتحييد الأزلام ممن اندسوا في مجال الاعلام ودنسوه حتى استحال إلى مسخرة في الأوساط الشعبية التي لا توليه أدنى مصداقية قطاعية تماما كما سائر القطاعات المدجنة الأخرى.

وعندما نلتفت إلى حصائل العمل الصحفي في العالم العربي نلفيه مليئا بـ”الأيام الوطنية” مرصع بالجوائز المتعددة، أما وظيفيا فهو أفقر من أي من مجالات التنمية المعطلة في الامداد بالكفاءات والطاقات الوطنية الوظيفية النزيهة، فلا كاتب صحفي وطني مرجعي واحد لهذا الفضاء (العربي) الواسع من بعد هيكل على الرغم مما لدينا من تحفظات على هذا الأخير، استطاع أن يلمع بقلمه مثلما يلمع كتاب عديدون في الغرب بما في ذلك من كتبوا منتقدين لنظمهم أو متفقين معها من أمثال البريطاني روبرت فيسك أو الامريكيان آدم كليمر وتوماس فريدمان من الذين أسماهم الكاتب والفيلسوف الفرنسي الكبير الراحل روجي غارودي بكتاب “البنتاغون”.

كاتب  جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici