Nov 09, 2022
https://www.raialyoum.com/
بشير عمري
هكذا إذن كانت معركة التعددية في الجزائر مذ تم اللجوء إليها كنظام سياسي دون أن يكون سيادي أي أن يحكم المجتمع، ظلت تعددية شكلية “سياسوية” عددية “حزبوية” عازلة للمجتمع منعزلة عنه، ما حال دون ترسخ ثقافة الحوار بين كل التيارات الفكرية والسياسية، ودون تعزيز فكرة التسامح والقبول بالآخر كينونة وفكرا، ما كان سيفضي بالضرورة إلى ميلاد مجتمع سياسي ومدني حقيقي وقوي، يتكئ على تجربة وطنية مغتن بمراحلها الثرية، من تراث الحركة الوطنية وتعدديتها التأسيسية إلى حركات المجتمع المطلبية الثقافية والاجتماعية والسياسية طيلة فترة النضالية ضد الأحادية، مرورا بمأساة الحرب الأهلية في العشرية السوداء وانتهاء بلحظة الحراك الثوري للشارع السياسي والوطني الذي أطاح لأول مرة في التاريخ باستبداد وطغيان قوى غير دستورية تحكمت واستحكمت بأختام الدولة داخل القصر الجمهوري لتبعث مع دُمى المال والاعمال التي أنشأتها كيف شاءت، فهي كما هو واضح من هذا السرد الوجيز، تجربة ثرية، تحتاج فقط إلى عقل يرقب ويقارب الأمور من منظار أوسع ومتحرر من معتقل الرؤية السياسوية الانتخابوية الحزبوية الذي أريد له من خلاله فقط أن ينظر للتعددية.
كاتب جزائري
لم يقف العقل السياسي الجزائري لما بعد الحرب الأهلية لحظة أمام المرآة ليتأمل براحة واستراحة تجربته بمذمومها ومحمودها في مدار التاريخ ومخاضاته ومسار الأحداث وتقلباتها، لا سيما تلك التي رسمت بشكل مباشر شكله الحالي، لهذا يستمر الوضع في استقراريته السريرية السياسية المفضية ولا شك بالضرورة إلى المزيد من بقاء واستمرار الوضع القائم.
فالعقود الثلاثة من عهد التعدد، ليس فقط لم تفضي بالبلاد إلى التغيير المنشود والتطور عبر الاستثمار في قوى الوطنية الحية بكل أشكالها وتشكيلاتها، بل فاقمت من ظاهرة الفساد والاستبداد التي سادت في عهد الأحادية، ما فرض ضرورة البحث في طبيعة هذه التعددية التي أُتبعت، وكيف حيل دون أن يبلغ خيار ومسار “التعدد” كنسق وثقافة مأمنه في المجتمع ويأتي بما كان مأمولا منه؟
تؤكد كل القراءات الممكنة للتحولات السياسية الكبرى في التاريخ، حقيقة تأثير وتفاعل هاته التحولات مع مسارات التجربة في انبلاج وتطور الفكر السياسي لأي بلد، فلم يكن مثلا ممكنا أن يحدث التحول السياسي الكبير في أوروبا الشرقية لولا تفاعل العامة والخاصة مع طبيعة التجربتين، الشيوعية وما أعقبها من انقلاب كلي نحو الليبرالية، بحيث أنه يصعب مثلا اليوم تصور إمكانية أن تعود منظومة حكم الحزب والرأي الواحد في هاته البلدان ولا بأي شكل من الأشكال، ظاهرة كانت أم باطنة، فعلية أم صورية.
وهنا تمنحنا تجربة أوربا الشرقية فرصة لمعاودة فهم أسس التغيير الفعلي المفضية وجوبا إلى تحقيق الانتقال السياسي الصحيح والجذري، وهي ضرورة التمدد في المطلب التعددي في جسد المجتمع ككل بل وفي شتى مفاصله وعدم الانغلاق داخل الحلقة السياسوية ومسرحها التصارعي الحزبي الانتخابي الأيديولوجي، كالذي طبع حال تجربة الجزائر.
ففي بولونيا مثلا التي اندلعت منها شرارة التحرر من قيود الأحادية في الفكر والحكم، لم يكن لتجربتها أن تفلت وتنج من عواقب من سبقها من تمردات عبر ما عُرف بربوع بلدان المعسكر الشرقي، في كل من بودابيست بالمجر 1956، وبراغ التشيكوسلوفاكية 1968 وبرلين الشرقية بألمانية 1961، لولا أنها تفادت المطب السياسي ونقلت المعركة إلى الفضاء العمالي حيث مرتكز ووحدة القوة الفاعلة والفعلية في مجتمع يقوم عصبه الاقتصادي على الصناعة المنجمية، فكانت نقابة التضامن سوليدارنوسك قلعة التغيير التاريخي التي حررت المجتمع بالعمال من هيمنة الأيديولوجية العمالية الشيوعية الأحادية، تبع ذلك سقوط بنى الحكم الأحادي في كل أوروبا الشرقية تباعا، وحتى الأحزاب الشيوعية التي ظلت بحكم تجربتها رائجة وقائدة في الساحة السياسية، كما هو الشأن في رومانيا ما بعد تشاوسيسكو، تحولت إلى أحزاب تعددية وظيفيا وتصوريا.
وعلى العكس من ذلك تماما، تم في تجربة الجزائر حشر وحصر مبدأ التعددية بوصفيه السبيل الأوحد لتحقيق التغيير الفعلي والانتقال السياسي الجذري والكلي في الفضاء السياسوي الحزبي، وبالتالي حُرمت “السياسة” نفسُها من مساهمة وتجند كل قوى المجتمع الحية لتتطور فكريا وعمليا لتتغير ويكون مسارها الطبيعي (السياسة) نفسه أداة تغيير، ولعل هذا ما يفسر سر عدم تحمس بعض النخب السياسية المعارضة غير المحزبة للمساهمة في تحقيق الانتقال والتغيير السياسيين المنشودين.
إن هذا العزوف “النخبوي” عن النشاط السياسي، إنما هو نتاج عدم القدرة على التمدد بالتعددي في الفضاءات المجتمعية الفاعلة، كالحركات النقابية، والطلابية والجمعوية، مع ما قبلها من إحكام قبضة السلطة على هذه “المؤسسات” الحيوية وكذا على المنابر والخطابات الإعلامية، الدينية والوطنية، تأمر الذي أسهم أكثر في عزل السياسي والحزبي داخل المجتمع وتجريده من قوة الاقتراح، النفوذ والتأثير فيه.
وهنا يبرز بشكل لا غُبش ولا لُبس فيه ضعف نخب التغيير في المجتمع الجزائري، وهشاشة استراتيجيتها ومنظورها في ذلك، كما ويبرز ضآلة وعيها المدني والتمدني الذي تزعم أنها ناضلت وتناضل من أجل أن تمكن له على أعلى مستويات السلطة والحكم في البلد، قبل أن تظهر فاشلة حتى في مواكبة إيقاع تطور وعي التغيير الحاصل في المجتمع بشكل من الاشكال، تلألأ وميض منه في حراك الأمة الشهير في فيفري 2019.
فالواضح إذن أن ما يكرس ثقافة ديمقراطية الواجهة السائدة اليوم ليس فقط كنمط تسييري للشأن الوطني بل وكنمط تفسيري لتاريخه، من منظورنا المتواضع، هو عدم نفاد التعددية بوصفها آلية لتكريس وتفعيل فضائل التنوع وبسط ثقافة وسلطة الاختلاف المكنونة داخل المجتمع، إلى أعماقه (المجتمع) السحيقة حيث يحضر سلطان الأحادية بشبحه القديم يعوق وعيا وعملا نهضة قوى المجتمع الحية.
فخنق التعددية بحصرها داخل القوقعة الحزبية “الصورية” عمل على الاستمرار في تأجيج الصراع الأيديولوجي بين مختلف التيارات السياسية، ما جعل فكرة الديمقراطية من خلال اختزالها في الحيز الآلي الاجرائي الانتخابي وتجريدها من ثقلها الدلالي والتاريخي، تغدو محل انتقائية في التفسير والتأويل حتى استحلت هي بذاتها من هدف للتحقيق على أرض الواقع إلى مجال للصراع النظري الايديولوجي بين تفكيري مثالي علماني وتكفيري عقائدي ديني.