من العام إلى الخاص في الوعي بالمسألة الوطنية

0
866


Jan 06, 2023

https://www.raialyoum.com

بشير عمري

كنت أرى الوطن في دفاتر وكتب مدرستي وعلى صفحات الجرائد ونشرات الأخبار منطلق قصة وجودي ومنتهها، فحتى الأسرة التي درسونا بأنها الخلية الأساسية للمجتمع خسفها وعيي العام والعارم بالوطن وصار لذي شيء من النسيان للخاص من أجل العام وما أدركت يوما أن في هذا “الخاص” مركوز “العام” بشكل كثيف ومكثف حتى أنه ليغدو كما الثقب الأسود الذي يحتجز كل أشكال المواد والطاقات ونور ذاته لا يفلت من قبضته، إلا أن وقفت في لحظة نضوج سؤالي حول طبيعة الأزمة الجزائرية وتأملت الحي الشعبي الذي نشأت فيه فوجدتني أمسك بتلابيب الحقيقة الوطنية في بعد من أبعادها الكبرى.

كنت أحمل كل أثقال السؤال الوطني، حول هوية أزمته أزمة هويته، عن سبب تخلف اقتصاده وهو الحامل والمحمل بكل خيرات باطن الأرض وظاهرها، لكن التطلع إلى أجوبة بالمنظار “العام” عادة ما يحجب الحقيقة، وقد أبدع مرة توماس سانكارا حين أجاب سائليه عن حقيقة وجود الإمبريالية في بوركينا فاسو لبلد الفقير الجائع بالنظر إلى صحون غذائهم لتتجلى لهم الإمبريالية التي تختفي في خطابات عموم التاريخ وسط غبار العراكات الأيديولوجية النظرية.

فعلى أرض حي شعبي كبير ” الجديد” القابع بمحافظة تقع 1000 كلم جنوب الجزائر جثمت أجيال تجهل هوية المكان بداله ومدلوله ببساطة لأنه لم تكون له كنية ولا كينونة فيما عدا تراب الله قبل الاحتلال، ويوم قدم المستعمر بأدوات عقله واشياء حضارته مستنطقا الامكنة ومستكشفا لما أظهرت وما أبطنت من خيرات صار للحي معنى في التاريخ، أعطاه إياه الفحم الحجري وقود الحضارة وطاقة الصناعة إذ ذاك وإذ ذاك تداعى إلى المكان كل باحث عن لقمة العيش في حقبة من حقب الجوع والحرمان والتفقير التي كانت وسيلة الاستعمار للهيمنة على الانسان والاستدامة بالمكان.

فـ”الجديد” اسم حي ولد من جدة التاريخ، وقليل من يفهم معنى أن تولد الأمكنة، لأن الطارئية في الوعي البسيط للكثيرين، ظلت للإنسان على المكان، وليس العكس، وها هو ذا حي لم يكن شيئا مذكورا في بداية القرن الماضي قبل أن يخلقه من عدم التاريخ الاستعمار ويغدو عاجا ماجا بالناس، بفضل خير حفظه لهم الله في جوفه (المكان) اسمه الفحم ما كانوا يعلمون عنه شيئا قبل 1903 تاريخ سماع أول محرك سيارة يدوي صوته في البيداء القفر.

ألقى الاستعمار بكل ألياته وأثقال معارفه الصناعية بالمنطقة، وربطها بحواضر الجزائر الكبرى لا سيما من خلال انشاء خط السكة الحديدية الفاصلة بين جنوب الجهة الغربية حيث “بشار الجديد” وشمالها بقصد نقل الفحم إلى هناك ومن ثمة إلى فرنسا، وحضرت أطر وأيدي عاملة من كل جهات الجزائر ومن كل نواحي أوروبا لا سيما في اثناء الحرب العالمية الثانية واستوطن الجميع الحي الجديد مع كامل موزاييك التنوع فيه بين ما هو خاص أي التنوع بين أهل الجزائر من كل جهاتها، وأوروبيين فرنسيين واسبان على وجه أخص، بل ومن المغرب، جميعهم يتحرك على جرس حقول استخراج الفحم، حتى أن مواعد تناول الغذاء في البيوت كان واحدا موحدا وذلك حين يدوي جرس المؤسسة يلتحق العمال ببيوتهم لتخلُ الازقة والشوارع من اطفالها وكبارها، وظلت الأمور على هذا الطقس (الصناعي) إلى ما بعد الاستقلال يشكل جزء من أثر “الهوية” التي رسخها الاستعمار في الحي.

بعد الاستقلال، سكن الأهلي من عمال المناجم مساكن المعمرين الذين غادروا عائدين إلى أراضي أجدادهم، وظل الحي “الجديد” راقيا في هندسته ورائدا في نظافته ومنتظما في عمرانه، إلى أن سقط مشروع دولة الاستقلال سقطته الكبرى، بفشل نماذج التنمية كلها، من ثورة صناعية مصنعة أو مصطنعة إلى ثورة ثقافية كرست التجهيل ووظفت الجهل وصولا إلى ثورة فلاحية أبيدت بسببها الملايين من الهكتارات، هذا الفشل العام سيتبدى ويتجلى بوضوح في هذا الحي ذي الأصول الصناعية، يوم تبكر الجزائر على غير بقية دول العالم، في التخلي عن الفحم وتعطل سكته الحديدية وتغلق وحدات شركته وتمتنع اجرسها عن الدق في منتصف النهار ليدخل الجميع ديارهم ويتناولون غذاءهم مع ابائهم العمال، ويتلاشى أحد ابرز عناصر “هوية المكان”.

ما سيفاقم من تلكم الازمة انهيار مشروع الثورة الزراعية وزحف الحواف من المناطق الفلاحية المجاورة إليه وإلى المدينة سعيا لظروف أفضل للعيش، فاستوطن هؤلاء الجهة الغربية للحي المتاخمة للوادي الكبير، حيث بنوا لأنفسهم أمام مرأى من السلطات بيوتا من الصفيح وتعاظم الأمر لعقود عدة الى أن استحال إلى عضال عمراني، وهنا سيولد أساس تفريقي بين الجهتين، الغربية التي بناها المحتل وخلفه فيها عمال الفحم من الأهالي، الذين استفاد ابناؤهم من ارث الاستعمار بكل مرافقه وعقاره القار والمنقول، والشرقية التي عمرها الريفيون القادمون من خراب مشروع الإصلاح الزراعي الذي افسد ولم يصلح، واشتعل السجال بأحقية المكان ولبثت في ذلك الجدال أجيال أحقابا، أين رمى أبناء الجهة الغربية نظرائهم من الشرقية بترييف الحي (الصناعي العمال) ورد الاخرون بكونهم أكثر أصالة وعمق اتصال بالمنطقة لآنهم وانسالهم من نبتة الأرض أي ليسوا طارئين عليها من جهات الوطن الأخرى.

ومع توالي السنين ستختفي الهويتان معا في ذلك الفضاء الجغرافي العمراني الضيق، فلا الريفي في الجهة الشرقية من الحي ظل على هويته الفلاحية الأولى في العادات والتدبير ولا الصناعي من الناحية الغربية منه، بقي على نمط وريتم الحي الأوروبي الذي سكنه عقب اندحار الاستعمار وأعاد تسميته بـ”الحي الجزائري”، وبالتالي صرخ سؤال الهوية مجددا حول ذلك الحي – الصحراوي الجديد – من هو؟ ما الجديد في طبيعته حتى يحمله ميسمه؟ وكيف استحال في عمرانه الأوروبي المنظم إلى فوضى تسيء الناظرين من فرط الانتشار العشوائي للبنايات خارج كل المقاييس والمعايير العمرانية؟

هي أسئلة موجعة لا تنطرح إلا داخل صمت الأفئدة المتألمة بوعييها بخطورة اللوحة التي عرضنا تلك، كونها لوحة عاكسة بكثافة لمقتضى وقضايا وطن بأسره وجد رهينة مشروع وطني فاشل أو أفشل بعد الاستقلال، وهذا ما يدعونا إلى ضرورة التأسيس لوعي جديد بالوطن تفرضه طبيعة المرحلة هو الانطلاق في ذلك من الخاص إلى العام.. وهنا تحضرني قصة طالبة بجامعة المحافظة حيث الحي “الجديد” مشروع بحث حول حياة الايكولوجي العالمي “بيار رابحي” ابن المنطقة، تحفظ بشأنه استاذها لأنه لا يعرفه !

كاتب  جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici