وحدها الجزائر من دون غيرها من تتحول فيها مسألة الإبقاء على ناخب وطني في كرة القدم على رأس الطاقم الفني، من عدمه إلى أزمة سياسية ووطنية تنخرط فيها السلطة عبر أعلى مستوياتها، وقد يتطور فيها النقاش إلى درجة أن يغدو محل تهديد للامن القومي كما صرح بذلك وزير الاعلام محمد لعقاب مؤخر، أمر يجعل من الجزائر استثناء ليس على الصعيد الإقليمي فحسب بل العالمي، وبالتالي يثير جملة من الأسئلة المتصلة بمدى ارتباط الرياضة ممثلة في نوعها الأول الاوسع والأكثر شعبية بالبلد ونعني بها هنا كرة القدم بالسياسة، وما المغزى من هذا الربط إلى حد أن يصل الأمر فيه إلى تهديد الامن القومي لبلد بحجم قارة مثل الجزائر؟
في إحدى محاضراته منذ عقد مضى، تحدث الروائي والحقوقي المصري علاء الاسواني عما أسماه أسلوب الالهاء الذي تتبعه وسائل الاعلام ذات الارتباط الوظيفي والوثيق بدوائر صنع القرار في مصر، وكيف أن هذا الكم الهائل من القنوات الفضائية التلفزيونية والصحف اليومية والاسبوعية والمجلات والمحطات الاذاعية، تجتمع فجأة في جزئية من جزئيات النقاش الاجتماعي، وتفرد لها مساحة واسعة من الكلام مع أنها تقع في حقيقتها في هامش اهتمامات المواطن، لتجعل منها مركزا لتلكم الاهتمامات والغرض واحد وواضح هو إلهاء الناس عما يتوجب النظر فيه والإصرار عليه في حركية المجتمع والدولة.
فعندما تصبح جزئية ما في الحركية الاجتماعية لأي شعب من مثل النقاش الرياضي في الجزائر، سواء تعلقت بنتائج سلبية أو ايجابية لمنتخب الكرة، أو بسجالات حول تعيين مدرب جديد أو إزاحة القديم، قضية وطنية تستدعي تدخل السلطات العليا لكونها باتت خطرا يتهدد الامن القومي، فليس لذلك من معنى سوى أن حجم الفراغ في دائرة الاهتمام الشعبي صار يتسع ويتوجب ملؤه، لأنه وكما هو معروف الطبيعة لا تقبل الفراغ، وما قد ينجر عن الاتساع في دائرة الفراغ في اهتمامات الشعوب، هو عادة منذر بالأسوأ في الافاق القريبة والمتوسطة.
والحقيقة هي أن النقاش الذي أثير بشكل مبالغ فيه حول قضية تغيير الطاقم الفني للمنتخب الجزائري لكرة القدم بقيادة جمال بلماضي بعد اخفاقه لثلاث مرة على تحقيق نتائج مشرفة في المنافسات الدولية، كان أخرها الخروج من الدور الأول من بطولة كأس أمم إفريقيا الجارية وقائعها بدولة ساحل العاج والذي انخرطت فيه كل الشرائح والوظائف والطوائف من جماعات الضغط ووسائل الاعلام التابعة لها، قد كشف كيف أن الجزائريين حشروا كلهم أو يكادون حشرا في مجتمع الكرة، وهكذا حشرٌ بقدر ما يخدم من يخطط له بقدر ما يتهدد النسيج المجتمعي ووحدة الشعب نفسه، إذا ما تم التمادي في ذلك، وإطلالة سريعة على طبيعة النقاش ومضمون الخطاب الإعلامي والرياضي السائد اليوم في الجزائر، بإزاء هاته القضية المضخمة المفتعلة، ومحتوى ما يستحضر من نقد للقرارات والإجراءات المتعلقة بتعيين الأطر الرياضية وابرزها ناخب كرة القدم، بإثارة الجهوية ونزعتها البذيئة التي لم تبرح منذ الاستقلال الخطاب السياسي والوطني في الجزائر – إطلالة – تجعل صاحبها يدرك أمور عدة ثاوية في المكنون النفسي للمواطن اليوم.
أولى تلك الأمور، هو أن الناس ولا سيما منهم الشباب القوة الحيوية للمجتمع والدولة، قد اقتيدوا في اهتماماتهم عنوة من حقيقة الواقع وواقع الحقيقة إلى فضاء الافتراض أين تُدار صراعات هامشية دونكيشوتية فيما بين أبناء الوطن والواحد، بأن صار منصب ناخب كرة القدم أهم لديهم وأعظم من أي منصب أو مسئولية أخرى في البلد، فيتم تبذير الجهد وتبديد عناصر القوة والطاقة لهذا الشياب هدرا في خلاءات الخيال الضائعة الشاسعة.
ثاني الأمور، هو أن هذا المواطن قد فقد بوصلة التوجه في مسرح يومياته، بعد إذ تم تشتيت انتباهه وخلخلة تراتبية اهتمامه، بما يجعله واقعا فيما بين الوهم والواقع لا يدرك إلى أين ينتمي من هاته الفضاءات المتقدة في ناظره وضميره.
أما ثالثة الاثافي، كما يعبر عنها في مثل هكذا نوع من الابتلاءات الاجتماعية، هي ذلك الحضور الأخطر للصراعات الكامنة في النسق الاجتماعي والوطني، بين مختلف مكوناته الجهوية، والعرقية والطبقية، ما من شأنه أن يزيد في الشرخ داخل الحوزة الوطنية.
وعليه فإن ما يبدو من هذا التوظيف الإعلامي والسياسي لنشاط الكرة وتضخيم حضوره في واقع النقاش الوطني، بإفراد مساحات كبرى لتناوله إعلاميا، مع ما يتدفق من الفضاء الأزرق من كم هائل من النقاشات المنفلتة تمام عن كل أزِمَّة المسئولية السياسية والاخلاقية، هو خاطئ وخطير باعتباره يمثل في الحقيقة تهديدا للسلم الداخلي أكثر من أن يكون تهديدا للأمن القومي الخارجي، كما أشار اليه وزير الاتصال الجزائري محمد لعقاب وهو يحاول معاودة الإمساك بنطاق التحكم في الامور قبل الفلتان الأخطر مثلما عنونت به الصحف الجزائرية ما تناولته بهذا الصدد.
من هنا نخلص إلى أن إرادة توظيف عنصر الهشاشة الذي يطبع البني الاجتماعية لدولنا ومجتمعاتنا هو ما يحول دون نشوء مجتمعات مدنية قوية وواعية تتطلع إلى توحيد وفرض إرادة الشعوب من خلال إعادة مركزة وتأطير اهتماماتها الحقيقية وذلك بمأسسة هذا الوعي المفضية بالضرورة إلى الانتظام الوظيفي في النطاق الاجتماعي والسياسي العام ما يجعل من الصعب التلاعب بالوعي عبر اصطناع نقاشات غير ذات جدوة أو تضخيمها تضليلا لتوجهات الافراد والجماعات، كما ترومه جماعات المصالح في صراعاتها وعراكاتها البينية، ولأدل على ذلك مما سبق من حرب الكرة التي خاضها نظامان عربيان مفلسان، مبارك في مصر وبوتفليقة في الجزائر سنة 2009 إبان التصفيات المؤهلة لمونديال 2010 بجنوب إفريقيا وكيف تم حقن الشعبين بالعداوة والكراهية من حسن حظهما أنها زالت بزوال النظامين الفاسدين الملفسين.
Abbes Hamadene
POUR NE PAS OUBLIER LES CRIMES COMMIS PAR LE SYSTÈME CONTRE LE PEUPLE !
Les évènements d’octobre 88 constituent un repère dans notre mémoire...