الجزائر: حين يصمت الرئيس…. و القضاء

1
1715

 http://www.alquds.co.uk

 

بشير عمري

 

Jan 27, 2018

 

يوما بعد يوم تتفاقم أزمة الجزائر الداخلية، التي لا يراد لها أن تشخص إلا وفق أدوات القراءة والتفكيك الرسميين، بما يمكنه أو لا يمكنه دحض ما يرسم ويرتسم من حال الأمة التي صارت تقف على حافة الانهيار، في ظل شلل المؤسسات، وصمت القبور الذي تلتزمه ما تُنعت بنخب الداخل، والتشرذم الشللي الأيديولوجي لنخب الخارج، ما أسهم في التخفيف من ضغط خطاب النقد والانتقاد، الذي يوجه للنظام بحسبانه مصدر البلاء الكامل، والدمار الشامل الذي يتهدد مستقبل الجزائر في حال بقيت السلطات السيادية للشعب والشعب ذاته، في قبضة المتحكمين في الجهاز التنفيذي، في حالة الموات الحالية تنتظر أن يعود الرئيس للكلام، ويعود الكلام للرئيس، بعدما صارت كلمة الرئاسة هي المفردة الأطغى في لغة الإعلام الموجه لملء الفراغ الذي يعرفه هرم السلطة في البلاد.
ففي تغريدة له عبر مواقع التواصل الاجتماعي، انتقد المثقف الجزائري والأستاذ الجامعي فضيل بومالة، السلطة القضائية في الجزائر، لتبعيتها غير المبررة للجهاز التنفيذي، وعدم تحركها لبسط سيادة العدالة بما يمليه عليها ثقلها السيادي، بوصفها عمود من أعمدة الدولة الثلاثة، خصوصا في ظل تفجر أزمة الأطباء المقيمين، المتظاهرين يوميا في العاصمة قصد الحصول على أغراض مطلبية لا تقف عند الامتيازات الاجتماعية لأولئك الأطباء، بل تتصل أيضا بحال قطاع الصحة، الذي تتسارع وتيرة انحداره بشكل بات يتهدد صحة هذا القطاع ذاته ومعه صحة المواطن، وما يصاحب ذلك كله من حديث متصل بنوايا السلطة، لبيع المؤسسات الاستشفائية العمومية، في إطار حملة الخصخصة التي أعلنها الوزير الأول أحمد أو يحيى وتواجهه الرئاسة بشكل غامض يعكس حالة التخبط التي تتواجد عليها مؤسسات الدولة مذ صمت الرئيس بالمرض!
تغريدة الأستاذ بومالة المنتقدة لسلطة القضاء، تحيلنا في ارتجاع سريع إلى هذه السلطة الحاسمة في بنية الدولة الحديثة، التي يرفع به صرح الأمة إلى العلا أو يخفض إلى الحضيض، لمعرفة طبيعة مواكبتها لتطور السير المؤسسي للدولة في الجزائر، فإذا سلمنا بأسبقية أزمة السياسة في الجزائر عن باقي كل الأزمات، بل لربما كانت هي سبب كل ما تلا ظهورها قبيل الاستقلال من أزمات أعاقت النمو الطبيعي والسليم للدولة الفتية، حين تطاحن الفرقاء من أجل السلطة، ملقين خلف ظهورهم كل المواثيق والمعاهدات التي أسست للإطار الوحدوي الثوري في الحركة الوطنية، فقد كان للقضاء حضوره واستحضاره في كل الخضمَّات الكبرى حينها، وطبعا شأنه شأن كل المؤسسات تم كتم أنفاسه بقوة الدبابة، وفصل في القضايا التاريخية للأمة بما أملته الوصايا الانقلابية، لا بما اقتضاه إذ ذاك القانون.
وكل الذين كتبوا مذكراتهم من ساسة، انفصلوا عن عالمها المرتهن من قبل سلطة متعسكرة، قهروا وعذبوا باسم وحكم القانون، أشاروا إلى هزيمة سلطة القضاء المبكرة كما باقي هزائم سلط الدولة السيادية والرمزية، ما فوّت على الجزائر فرصة التأسيس لوطن العدل، الذي نشده الجزائريون وهم يعانون قهر اللاعدل الاستعماري لمدة قرن وثلاثة عقود من الزمن. وإذا كان ثمة مبرر موضوعي أو غير موضوعي لانتكاسة سلطة القضاء بضخامة قيمتها في التأسيس المؤسسي للدولة الحديثة، باعتبارها ثالث السلط المنفصلة في السيادة والمتصلة في البنية، لكون القمع الأحادي المتأتي عن السيطرة الشاملة التي بسطها الانقلابيون على مفاصل الدولة والمجتمع معا، بقوة الحديد والنار، طيلة عقود الحكم الأحادي الثلاث التي أعقبت الاستقلال، فكيف يمكن تبرير الارتكاس الذي سجله الكل على جهاز القضاء، في عهد ما يُنعت جزافا في الجزائر بالتعددية والحرية؟ وأين يتمظهر هذا الارتكاس؟
في الحقيقة لا يمكن الحكم على أداء القضاء في السنتين اللتين أعقبتا أحداث أكتوبر 1988 حين تم إقرار التعددية وفتح فضاء الحرية على أكثر من صعيد، إذ في أثناء تلك الفترة التي صار فيها المجتمع بكل أجزائه وجزئياته يتفاعل مع خصوصيات العهد الجديد، يكبو هنا ويقوم هناك بعد أزيد من ثلاث عقود من الارتهان للواحدية والانطواء في بوتقة الوصايا الشاملة والشمولية، كانت فلول الوصايا في دوائر القرار الفعلي المظلم تتجهز للإجهاز على التجربة الوليدة، والعصف بكل ما رجاه الجزائريون من انتفاضتهم التاريخية خريف 1988. وإذا كان اللوم يصعب على ساسة التعددية من أحزاب وشخصيات، لم تقرأ طبيعة العهد الجديد الذي كان يمضي في ظل بركان بيت النظام القديم، ما سهل على دوائر التنظير السياسي للسلطة الفعلية تفجير الجميع في المرحلة تلك، فإنه ليظل بالمثل التعامل مع القضاء وعدم توجيه الملامة له باعتباره متجددا مع تجدد المرحلة الوجيزة تلك.
لكن ما يصح لومه على هذه السلطة القوية أو المفروض أن تكون كذلك، هو قبولها العودة إلى مربع الإقلاع الأول، فاستحال حالها في الأداء إلى ما يشبه المُسمِّع في الصلاة (المأموم)، أي تعيد أحكام وكلام قادة وأعوان النظام. وهنا نقف للحظة أمام موقف المثقف القانوني، وحالة العقم النقدي الكبير التي أظهرها في أدب الكتابة القانونية، فإذا كنا نقرأ لأصوات نقدية في السياسة والاقتصاد والتاريخ حتى، بكل ما يتصل ذلك مع كبرى القضايا التي تتفاعل في المجتمع، من أزمة هوية وأزمة سياسة وانهيار في قيم وأداء الاقتصاد الوطني، فأننا بالمقابل لا نكاد نعثر على إنتاج نقدي للأداء القضائي والقانوني لسلطة القضاء، وما يتصل بها من حركية قانونية، فحتى رابطات الدفاع عن حقوق الإنسان، تظل أبعد ما تكون على صعيد التأسيس لنقد قانوني، وفق نسق مرتبط ومرتكز على تجربة الكتابة وكتابة التجربة، من خلال الإنتاج التأليفي في هذا الإطار، فالعبث الذي لحق أعلى قوانين البلاد، مما قيل إنها تعديلات مست في الكثير منها بثوابت الأمة، لم تلق مطلقا تفاعلا جدليا في الإطار الفقهي القانوني من جانب مثقفي وفقهاء القانون وكتابه، وعوض ذلك فجرت السلطة داخل هاته المنظومة قضايا استشكالية، ما زال مثقفو وفقهاء القانون يستأنسون بها في صالونات الكلام الحقوقي، شرعية حكم الإعدام وعدم إنسانيته، قانون الأسرة وعدم مدنيته، المواريث وضرورة العدل فيها بين الرجل والمرأة و.. و.. في حين بات القضاء بمبعدة تامة عن آليات النقد القانوني في ما يتعلق بقضايا كبرى وحيوية، مثل عجز العدالة أمام غول الفساد الذي أركس الجزائر في حمأة التخلف، كما لم يركسها في كل العقود السابقة، وعدم ارتداع المسؤولين الفاسدين وتزايد قضاياهم وتوالي سطوع نجمهم في سماء الفساد تحت الأضواء، وعلى مرأى ومسمع من الجميع، إنما يكشف أزمة عميقة على مستوى هرمية السلطة القضائية وعدم فاعلية وتفاعل أجهزتها بالقدر الذي يقي المجتمع من تغول الفساد المقبل بشكل أخص من حراك ساسة خارج الأطر المنطقية والنزيهة للسياسة، بوصفها نشاطا مجتمعيا نبيلا على صعيد ممارسة المسؤولية.
والمجتمع يخشى أكثر ما يخشاه على واقع حاله من انهيار قيمة العدل وتراجع سلطته القضائية كدرع ثالث في ثالوث دروع الدولة وبنائها الهرمي، فقد يفسد السياسي وينال منه المجتمع ويحتمي عبر القضاء، وكذلك الشأن ذاته مع رجال المال وناشطي الاقتصاد، بدورهم قد يتهاوون في مطب الفساد فلا ملاذ حينها للمجتمع سوى آلية القضاء لردعهم واستئصال الظاهرة بقوة القانون المتأتية عن إرادة الشعب وحزم ونزاهة رجال القضاء. وهذا ما غاب عن حال البلاد والعباد، فاستحال الوثوق بمؤسسات الدولة لحماية متلاعبين بمصير الأمة، وأضحى القضاء بلا قدسية ورهبة كالتي يراها الناس في حياة الغير، حيث الملك مؤسس فعلا على قاعدته الصُلبة.
لقد وئدت الدولة في الجزائر من يوم ولدت أي في يوليو 1962 من قبل سلطة فعلية عنفية وعصبوية مارقة عن كل الأطر الطبيعية لانبثاق السُلط في مساقات السياسة وسياقات التاريخ، ومعها ولدت كل المؤسسات مشوهة تدور وتدق وفق دقات ناقوس هذه السلطة، ومنها السلطة القضائية التي باتت تحتاج إلى عهد جديد يخلصها من تراكم التجربة السوداء لتخلص بدورها مجتمعا فعل به ساسة مغامرون ما أرادوا بلا وازع أخلاقي، ولا رادع قانوني، ما أدى بأطره لمواجهة شُرطته كان آخرها أطباءه، وشبابه لمواجهة شططه عبر إلقاء أنفسهم إلى البحر للغرق أو العبور صوب سلطة العدل الحقيقية هناك في الضفة الأخرى الباردة من المتوسط.
كاتب صحافي جزائري

بشير عمري

1 COMMENTAIRE

  1. والمجتمع يخشى أكثر ما يخشاه على واقع حاله من انهيار قيمة العدل وتراجع سلطته القضائية كدرع ثالث في ثالوث دروع الدولة وبنائها الهرمي، فقد يفسد السياسي وينال منه المجتمع ويحتمي عبر القضاء، وكذلك الشأن ذاته مع رجال المال وناشطي الاقتصاد، بدورهم قد يتهاوون في مطب الفساد فلا ملاذ حينها للمجتمع سوى آلية القضاء لردعهم واستئصال الظاهرة بقوة القانون المتأتية عن إرادة الشعب وحزم ونزاهة رجال القضاء. وهذا ما غاب عن حال البلاد والعباد، فاستحال الوثوق بمؤسسات الدولة لحماية متلاعبين بمصير الأمة، وأضحى القضاء بلا قدسية ورهبة كالتي يراها الناس في حياة الغير، حيث الملك مؤسس فعلا على قاعدته الصُلبة.
    مقال أكثر من رائع شكرا لك الاستاذ بشير على هذا التنوير

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici