الفراغ الوظيفي للرياضة في مشروع الدَمقْرَطة !

0
936

www.elwassat.DZ

على غير ما استمر في حُسبان الكثيرين، لم يبقى مطلب دمقرطة الحياة العامة كصوت نضالي دائم، حكرا على تلكم الأطراف التقليدية من أحزاب وشخصيات وهيئات سياسية معارضة، وإنما احترفته جهات هاوية في فضاء المجتمع المدني أو تلك التي تقع على خطوط التماس فيه، من مثل الجمعيات والنوادي والفرق الرياضية التي كان لها حضورا في بعض التجارب الوطنية، حضورٌ لم يقل، إن لم يفق، بروزا وتأثيرا، قوى الرفض والتغيير الأخرى، لا سيما في تلك التجارب التي عرفت الاستعمار أو الاستبداد الدكتاتوري بشقيه العسكري والمدني، والتاريخ يروي نماذجا عن مساهمة نوادي رياضة وكروية خاصة في معركة التغيير السياسي، متخذة في ذلك قواعدها الجماهيرية الواسعة كأداة ضغط فعالة لفرض منطق التغيير والتحرير وقلب المعادلة التوظيفية للرياضة التي كانت يُرام من خلالها جعل الرياضة وبالخصوص كرة القدم أفيون الشعوب يشل كل إرادة أو وعي للتحول والتغيير قد تدب في أطرافها (الشعوب).

والاسئلة العميقة التي يمكن أن تفرضها ظاهرة مثل هذه التي تقع في مفترق طرق السياسة والاجتماع، لهي أوسع من أن تحصرها ورقة كهاته، ولكن يبقى أهم ما يعنينا منها، هي تلك الاسئلة التي تتصل بالتاريخ النضالي باعتباره مكمن الإشكالات السياسية والوطنية المستمرة في راهن بلدنا اليوم، فهل حقا عبرت نوادينا الرياضية بصدق وحق عن القضية الوطنية في ليلها « الاستعماري » ونهارها « الاستقلالي » بالشكل الذي يلزم؟ وما الذي يحول دون أن تستكمل مهمتها التأسيسية تلك؟

في فليم أنجزه لقناة « بورتريه للعالم » الافتراضية، كل من جيل روف وجيل بيرز بمعية النجم الكروي الفرنسي الشهير إريك كونتونا حول ظاهرة نادي كورنتيانس البرازيلي بقيادة نجمه التاريخي الدكتور سوكراتيس الدولي البرازيلي السابق لمنتخب الثمانينات، كشف الفيلم عن دور غير عادي لهذا النادي ذي القاعدة الجماهيرية الواسعة في بلاد السامبا، في مواجهة الديكتاتورية العسكرية التي كانت تحكم البرازيل، مقدما قائده المتعلم المتفكر المتنور كزعيم ثائر، لا من سوح الجمهورية وإنما من ملاعبها، في مشهد لا مثيل له في التاريخ، مشهد أعطى للديمقراطية مجال نضاليا عمليا إضافيا يفوق المنابر التقليدي التي توفرها الحزبية في نشاطها المحدود والمضيق عليه أحيانا.

هذا الفلم ذكرني شخصيا بملحمة النوادي الجزائرية إبان فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر، وكيف أنها استطاعت أن تناظر وتماثل النوادي الفرنسية الاستعمارية، حائلة في ذلك دون أن يموت الوعي الوطني في فُرجة وفرحة الكرة بملاعبها بالقرى والمداشر والمدن الكبرى، حيث حافظت على الذات الوطنية بشكلها ومحتواها، بل إن مضمون الوطنية لتجسد في عناوين وتسميات هاته النوادي والفرق والجمعيات، فالمولودية اسم قُد وصُك من معجم المقدس ومن اللحظة الدينية التي اختيرت لتأسيس النادي العاصمي وهي لحظة المولد النبوي الشريف، دون الاستطراد في الإشارة إلى لفظ الإسلامية التي كانت تلحق بتسمية جل الأندية في مقابل النوادي التي كان يؤسسها المعمرون.

إن هذا التمييز التأسيسي الذي طبع التجربة الرياضية للنوادي الجزائرية، والذي فرضته اللحظة الوطنية والسياسية التي كانت تعيشها الأمة الجزائرية، ظل في مراحله التاريخية عنصرا فاعلا ومتفاعلا في حياة تلك النوادي سواء أشعرت به أم لم تشعر، ذلك لأنه ظل محل فخر كإرث خاص، لكنه يحمل قسطا من الايديولوجيا الوطنية، وهو ما يلاحظ اليوم في مظلومية بعض من تلكم النوادي التي تعاني من الضائقة المالية لتسمر في الحياة إذ تذكر ساعتها بأنها ساهمت في الاستقلال الوطني وقدمت عديد الشهداء من أبنائها سواء من اللاعبين أو المسيرين أو المناصرين.

لكن لمَ لا تستمر هاته النوادي في عملها الوطني الوظيفي الذي قامت عليه تأسيسا، بأن تسهم في وعي الناس بقضاياهم الحيوية فتضيف إلى متعة الكرة واجب البناء الوطني والاجتماعي، ولعل العنف المستشري اليوم في ملاعبنا اليوم هو انعكاس لهذا الاحتباس في الدور الوطني الذي غاب عن فلسفة النشاط الرياضي للنوادي باعتباره عنصرا تأسيسيا وبنيويا فيها، ما أحدث هذا الفراغ العضوي لديها وشكل بالتالي أزمة في الهوية للرياضة الجزائرية عبر حركة نواديها.

ألا يمكن في مثل حالة نوادينا المأزومة استدعاء مقاربة مالينوفسكي الوظيفية الاجتماعية التي يرى أن جانب الرمز والطقوس وأشياء الانتماء إنما هي وظيفة اجتماعية قد يختل البناء الوظيفي الكلي إذا لم يصلح الجزء المعطوب، إذ أن الخصوصية في لحظة التأسيس التي قطعت مع مسار الاستقلال قد أفرزت هذا الغبش في هوية النوادي وجعلتها تتخبط في أتون الازمات المتتالية، ووقتها فقط يصحو الضمير لدى أبناء النادي فيعودوا بالذاكرة إلى تلكم اللحظة (التأسيسية) ليعبروا عن أصالة وقضية ناديهم!

أذكر في هذا الاتجاه تحديدا، كيف أنه مرة احتج أنصار نادي مولودية وهران على قدوم إلى رئاسة النادي أحد ملاك الكباريهات بحجة أن ناديهم تأسس في المقدس من الزمن، أي في المولود النبوي الشريف، وعليه لا يليق بأن يمتزج المقدس بالمدنس كي لا يسيء ذلك إلى صورة النادي ولا ينعكس بحسب معتقدهم على نتائجه الرياضية.

من هنا تتضح أزمة الهوية التي نعيشها في السياسة وتعيشها السياسة فينا، وهي أننا نعيش فراغا ايديولوجيا رهيبا، فرضته القطيعة الوظيفية مع شروط لحظة التأسيس للوعي الوطني وممارسته من خلال عديد الوسائل والأدوات من بينها النوادي الرياضية والكروية، تلك الازمة التي يعبر عنها الجيل الحالي بالعنف كأداة انتقام من الواقع والخيبات والانهيارات الكبرى التي عرفها المشروع الوطني الذي حكلته دولة الاستقلال.

فالأزمة أذن، هي، والحال هذه، أكبر من أن تختزل في كونها مجرد أزمة مادية لنوادينا الرياضية، بل هي متجذرة في أعماق الحقيقة الوطنية، بافتقاد نوادينا لذاكرتها وأساس انبثاقها وبعدها الاجتماعي والسياسي في تراثها الوطني وكيف أنها غابت اليوم عنها هاته الحقيقة بعدما ظلت حاضرة فيها من ملحمة التحرير التي عبرت عنها بشكل وحدوي لحظة تأسيس فريق جبهة التحرير الوطني سنة 1958 وبه شكلت الجزائر استثناء في التاريخ الرياضي الدولي حين سبق منتخبها استقلالها الوطني، ما جعل المنتخب الوطني دوما يظل عشق كل الجزائريين إلى حد الجنون.   

.

بشير عمري

كاتب سياسي

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici