من الثورية إلى السياسية معوقات اكتمال الوعي الوطني بالجزائر

0
890


Apr 07, 2024

بشير عمري

https://www.raialyoum.com/

في مجتمعات التجربة الثورية الكبرى في التاريخ، كثيرا ما ينفلق السؤال الوطني لدى الفاعل السياسي، بين لحظة ما قبل وما بعد الثورة، وفي هذا البرزخ من الواقع الوطني القلق الذي يحياه الناس وسط مخاضات المعنى وأحاديث الأفاق، تظل الثورة بتفاسير وتأويلات نخبها وشركائها في التاريخ كامنة في الخطاب السياسي والوطني تثير في النفوس والافئدة الأسئلة الصعبة التي قد يدعي كلٌ وحده امتلاك القدرة أو الشرعية على الإجابة عنها.

وأهم ما في الأسئلة تلك، كيف تشكلت الفكرة الثورية على الواقع؟ وما مدى تأثيرها البعدي والقبلي في العقل السياسي للمجتمع؟ وهذا ما سنحاول معرفته من خلال التجربة الجزائرية التي آخذنها كنموذج تفسيري وتطبيقي للظاهرة الثورية بالنظر إلى ما للجزائر من رصيد من التجربة الثورية قلَّ نظيره في المنطقة وربما في العالم.

وهنا قد نحتاج في سياق تحليلنا للمسألة الثورية الجزائرية، إلى قدر من التواضع الاصطلاحي وهذا بضرب شيء من الصفح عن الاستعارة الاصطلاحية من الخطاب الوطني أو الرسمي المتعلق بمعاودة النظر في مسرودات ثورة التحرير والتي كان أحرص ما يكون عن التعبير عنها بـ”إعادة كتابة تاريخ الثورة” الذي ظهر واستمر مع الفترة الشاذلية، لنلجأ إلى قاموس الخطاب المعرفي الموضوعي حيث تعرف بـ”نقد الثورة”.

فمعلوم هنا هو أن حالة الإدراك بالذات الوطنية لم تبرح ضمير المجتمع الجزائري، مذ استحوذ عليه الاستعمار ارضا وعرضا قبيل منتصف القرن التاسع عشر، والدليل في ذلك شتى اشكال المقاومات الشعبية والمحلية التي كانت، ما إن تخمد هنا حتى تشتعل هناك، مبرزة الحق في الوجود التاريخي والجغرافي للشعب.

حتى إذا ما أطل القرن العشرون، برزت الملامح الأولى للوعي الوطني عبر نخب تسلحت بالأسئلة المعرفية الحداثية، بعد إذ احتكت بمدارسها (الحداثة) وفهمت التاريخ وتقلباته من سياقات أخرى غير تلك التقليدية التي كانت تعتمد وتعتمل معاني الذات المستقاة من السرديات القديمة ومحكيات الذات البسيطة صادرة عن بنى اجتماعية تقليدية، فلجأت النخب الوليدة تلك إلى تشكيل ملامح الكينونة الوطنية في وعي الناس، الذين سيتجاوبون على حقب ومراحل مع هذا الوعي الجديد بالذات الوطنية، لنشهد انتقال مرحلي في العمل الوطني.

هذا الانتقال تولد عن مخاض فكري وتحرري في الوعي الوطني، وذلك بعد إذ ترسخت القناعة لدى النخب الوطنية بضرورة اللجوء إلى ثورة العنف أو العنف الثوري كسبيل أوحد لبلوغ الحرية وكسر جبروت الاستعمار، إذاً نحن هنا بصدد التحول من وعي وطني (سياسي) إلى وعي ثوري (عنفي) سيتطور إلى عمل ثوري كاسح أفضى في الأخير إلى بلوغ الهدف الجوهري للأمة وهو نيل الاستقلال.

لكن مهلا، قبل ذلك كان هذا “العمل الثوري” باعتباره، كما أشرنا سلفا، ثمرة وعي وطني، قد شهد مراحل شتى من التأزم التنظيمي والاستراتيجي بين مختلف مكوناته ومؤسساته، عبرت عنها بعض القضايا الشائكة في التاريخ السياسي للجزائر من مثل أولوية السياسي على العسكري، والداخل على الخارج، في صراع بنيوي أفضى في النهاية إلى حالة من التشوه في الملامح السياسية للثورة والثورية للسياسة معا.

وإذا كان الشق العسكري للثورة قد حسم الصراع بالقوة لصالحه، واستمر يعبر عن المسألة الوطنية سياسيا وعسكريا في إطار مشروع دولة الاستقلال، فإنه بعد التحولات الاجتماعية العميقة التي عرفتها البلاد في العقود الثلاثة الأخيرة، قد وجد نفسه بين مفترق الطرق، حيث برزت الروح الثورية كامنة  في الانفس باقية كما كانت من قبل، متقدة فيها وفي المشاريع الحزبية الجديدة، لكن دونما رشد ولا زمام واضح وموحد لدى مختلف النخب التعددية المتولدة عن انتفاضة أكتوبر 1988، وهنا سيتم تنازع هاته الروح الثورية المتمردة، مرة أخرى، بين فريقين لتتحول في سياق الصراع السياسي إلى، عنف الوصول إلى السلطة (المعارضة الاسلاموية) وعنف البقاء في السلطة (التيار المحافظ في الحكم).

ومثل هكذا تحول، أكد استمرار سؤال تشوه السياسة الذي بدأ مع أولى ملامح الوعي الثوري في شقه العنفي والذي سيترسخ في الثقافة أو لنقل العقل السياسي الجزائري كأسلوب وحيد في العمل والتعامل بين الفرقاء في المشهد السياسي الوطني، خصوصا وأن فكرة الثورة في التجربة الجزائرية قد تم تأميمها لا باعتبارها مشتركا وطنيا يقع فوق كل انتماء وكل جيل، وإنما باعتبارها إرث شريحة أو جماعة بعينها تنعت في الخطاب الرسمي بـ”الاسرة الثورية” تأميم نقلَ الثورة من سياقها الشعبي في التاريخ الوطني إلى سياق إيديولوجي خاص بالنخبة الحاكمة محدثا بذلك أزمة في الشعور بالانتماء ستزيد من حدة سؤال تشوه السياسة.

كخلاصة لما تقدم، تبدو المعضلة السياسية في الجزائر كامنة أساسا في صعوبة الانتقال من الثورية إلى السياسية في العمل الوطني، كإرث تاريخي وكاستمرارية سلوكية في وعي السياسيين تفرضها الخصوصية النفسية التي شكلت بدورها الشخصية الوطنية، هذه الصعوبة في الانتقال هي المحبط الأول لكل محاولات اكتمال الوعي الوطني التي شهدها المجتمع على فترات متقطعة من تجربة الاستقلال الوطني وتحقيق التغيير المأمول في الافاق.

كاتب سياسي جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici