أزمة الشرعية: من الانقلاب على الصندوق إلى الانقلاب بالصندوق

0
3400
Redouane Boudjema

تمر اليوم 28 سنة كاملة على الانقلاب الذي قاده وزير الدفاع الأسبق خالد نزار على نتائج الدور الأول لأول انتخابات تشريعية تعددية عرفتها الجزائر، والتي حازت فيها جبهة الإنقاذ على 188 مقعد، وجبهة القوى الاشتراكية على 25 مقعدا وحزب جبهة التحرير الوطني على 15 مقعدا، من أصل 231 مقعد، وكان من المنتظر أن يتم التنافس على باقي المقاعد في الدور الثاني بين الأحزاب الثلاثة.
جبهة الإنقاذ كانت قد خرجت من أزمة كبيرة تسببت فيها بعض قياداتها التي كانت مخترقة من قبل البوليس السياسي الذي استخدم الاضراب السياسي لإجهاض الانتقال الديمقراطي داخل النظام الذي قادته حكومة مولود حمروش، والمعروف أن فكرة الاضراب تبناها الفيس من قيادات حزبية كانت معروفة بارتباطاتها بالأجهزة.
جبهة الإنقاذ بعد اعتقال شيوخها في جوان 91، والخروج الإعلامي لجزء من قيادييها الأكثر تطرفا ضد رئيس الجبهة الراحل عباسي مدني، من أحمد مراني وبشير فقيه والهاشمي سحنوني وغيرهم الكثير، كان قد قادها الراحل عبد القادر حشاني إلى الانتصار بعد مؤتمر الوفاء بباتنة، كما أن الراحل حسين آيت أحمد دخل أول انتخابات تعددية بعد مقاطعته للانتخابات المحلية التي كان يعتقد أن السلطة أرادت استخدامها كبالون اختبار من أجل تحضير تشويه مبرمج للانتقال الديمقراطي، في حين أن عبد الحميد مهري بدأ في مشروع بناء حزب جبهة التحرير الوطني بعيدا عن إملاءات الأجهزة، وكان قد واجه حكومة سيد أحمد غزالي كخصم أساسي، بالإضافة إلى شبكات العربي بلخير الذي كان آنذاك وزيرا للداخلية وعبد المجيد تبون مساعدا له كوزير منتدب مكلف بالجماعات المحلية، لأن مهري أراد إبعاد الحزب عن قبضة الحكومة والأجهزة، والسلطة كانت تريد إبقاء الأفلان كجهاز يسير بأوامر مخابرها.
الإعلام « الديمقراطي » الذي يدعو للانقلاب بعد بروز نتائج الدور الأول، خرج جزء كبير من عناوينه بمقالات تنذر الجزائريين والجزائريات بما يشبه نهاية العالم، فالتخويف والتهويل والكراهية كانت عملة هذه الصحف، فتم تنظيم حرب نفسية فيها الكثير من الأخبار الكاذبة والتصريحات المبنية بصيغة (ويل للمصلين…)، إلى القول بأن المجتمع يعيش تحت الرعب.. وغيرها من الكتابات التي أقل ما يقال عنها أنها لا يمكن إلا أن تدخل في نطاق إعلام الكراهية باسم الدفاع عن الديمقراطية والجمهورية، وفي الوقت نفسه خرج سعيد سعدي بعدما انهزم في الدور الأول أمام مرشح الأفافاس في مدينة تيزي وزو، الصيدلي سعيد خليل، بتصريح قال فيه: « لقد أخطأت في المجتمع »، داعيا دون أي خجل إلى ضرورة توقيف المسار الانتخابي من أجل إنقاذ ما أسماه بالجمهورية، وفي الوقت نفسه كان الراحل محفوظ نحناح مصدوما من نتائج حزبه المسمى آنذاك حركة المجتمع الإسلامي « حماس »، تيمنا بحماس الفلسطينية كما كان يقول، قبل أن يلتحق بصف المبررين للانقلاب والمدافعين عنه.
ولما قرر حسين آيت أحمد الدعوة لمسيرة 2 جانفي 92، من أجل الاستمرار في المسار الانتخابي بشعار « لا دولة أصولية ولا دولة بوليسية »، استخدمت الصحف الاستئصالية بشكل مفضوخ هذه المسيرة، ودون احترام لقواعد المهنة من أجل الدعوة لإلغاء المسار الانتخابي، وفي هذا المجال يمكن تأليف موسوعة من الافتتاحيات والتعاليق والنصوص الصحفية التي كتبها الكثير من مدراء الصحف والصحفيين تدعو العسكر لتوقيف المسار الانتخابي من أجل إنقاذ الجمهورية، والبعض من هؤلاء يريدون اليوم التموقع على ظهر المجتمع من أجل ركوب الحراك، في حين حافظ البعض منهم على ولاءاتهم وهم اليوم لا يزالون يصفقون لكل ما تقوم به السلطة.

آيت أحمد، مهري وحشاني في مواجهة سعدي ونحناح ونزار

حسين آيت أحمد وعبد الحميد مهري وعبد القادر حشاني كانوا قد دخلوا في اتصالات، كان قد كشف عن جزء من أسرارها أحمد طالب الابراهيمي في شهادته على العصر بقناة الجزيرة، وقد عرفت شخصيا بعد ذلك في إطار عملي الصحفي، أن حسين آيت أحمد الذي كان يعرف المجاهد إبراهيم حشاني والد عبد القادر حشاني (لأن ابراهيم حشاني كان من سكان بلكور آنذاك، وهذا الحي كان عبارة عن غرفة عمليات للمنظمة الخاصة التي ترأسها محمد بلوزداد وبعدها حسين آيت أحمد)، لذلك لما التقي آيت أحمد عبد القادر حشاني لأول مرة، كان حشاني خجولا جدا أمامه بسبب ماضيه الثوري، فما كان لآيت أحمد إلا أن يبدأ حديثه بالسؤال عن علاقته بابراهيم حشاني، فلما رد حشاني، أجابه آيت أحمد ممازحا بلهجة عاصمية « يمالا لي نعرف باباه ما يخلعني وليدو »، ومنذ ذلك الوقت بقي حشاني يحتفظ بعلاقات جد طيبة مع حسين آيت أحمد، إلى أن قتل حشاني في نوفمبر 99.
الأيام التي سبقت الانقلاب عرفت ضغطا كبيرا وحربا نفسية، من التشكيك في عدد المصوتين، إلى الحديث عن أقلية أخذت أغلبية المقاعد، إلى التشكيك في نزاهة الاقتراع من كل الأحزاب التي لم تحصل على أي مقعد في اختبار الصندوق، ولعبت فيها البروباغوندا الإعلامية دورا كبيرا.
لما تم الانقلاب في 11 جانفي 92، كان حسين آيت أحمد أول من خرج واصفا ما حدث بالانقلاب ضد الإرادة الشعبية، في حين ذهب سعيد سعدي وأصدقائه في لجنة إنقاذ الجزائر لتحية ما أسموه بعمل وطني نوفمبري لإنقاذ الجمهورية، وهو ما تبناه الراحل محفوظ نحناح بصيغة أخرى، كان الهدف منها الرد على تصريحات آيت أحمد، فكانت تصريحاته وبشكل حرفي: « الجيش الجزائري ليس جيشا إنقلابيا بل هو جيش جمهوري خرج ليحمي الديمقراطية من أعدائها ».

عبد المجيد تبون.. من حل مجالس الفيس إلى مكتب الرئيس

بعد الانقلاب بدأت الحرب الشاملة ضد المدنيين عبر الاعتقالات والاختطافات وتعذيب وغلق للجرائد التي نددت بما يحدث، إلى غيرها من الجرائم، وبدأ العنف الذي لم يسلم منه أحد في المدن والأرياف و المداشر والأحياء الشعبية… وحل الفيس بقرار قضائي في 5 مارس 92، تبعه في 12 أفريل 1992 صدور مرسوم تنفيذي رقم 92-142 الذي يتضمن حل 953 مجلس بلدي من أصل 1539 و32 مجلس ولائي من أصل 48 مجلس ولائي، من المجالس التي كانت تسيرها جبهة الإنقاذ،
وهو المرسوم الذي وقعه سيد أحمد غزالي وكان مهندسه عبد المجيد تبون الذي كان وزيرا منتدبا للجماعات المحلية والذراع الأيمن للعربي بلخير الذي كان وزيرا للداخلية.
عبد المجيد تبون بعد صدور هذا المرسوم، هو الذي أشرف شخصيا على تحديد قوائم رؤساء المندوبيات التنفيدية البلدية والولائية التي تسهر على تسيير المجالس، وبعد نجاح مهمته هذه، غادر الحكومة هو والعربي بلخير في 19جويلية 1992 أي بعد اغتيال محمد بوضياف في 29 جوان 1992.
ومن المعروف أن رؤساء المندوبيات التنفيذية في غالبيتهم هم الذين كلفوا بتشكيل حزب التجمع الوطني الديمقراطي سنة 97، والكثير منهم تحولوا إلى قياديين فيه، على غرار شهاب صديق الذي عين رئيسا للمندوبية التنفيذية للقبة.
اليوم تعود ذكرى 26 ديسمبر 91، والسلطة تحاول استخدام عملية تضليل واسعة بأدلجة النقاش، بين « نخب » سياسية تدعي الديمقراطية وهي من صناعة المخابر والأجهزة، و »نخب » سياسية تتاجر بالإسلام والكثير منها خرجت من رحم الأجهزة وصالوناتها، كما تريد استخدام جزء من الإعلام الذي ولد في عز الأزمة الأمنية لتعليب الصراعات حول الريع والسلطة بين عصب النظام على أنها صراعات أيديولوجية.
الواقع اليوم يؤكد أن السلطة لم تتغير في مناوراتها ولا في أساليبها، فهي ترفض السيادة الشعبية، وترفض أن تعود للشعب سلطة انتخاب ممثليه، كما ترفض تغيير طبيعة النظام القائمة على منظومة التعيين، ولذلك فإن انقلاب جانفي 92 كان عنيفا ودمويا ضد الإرادة الشعبية، واقتراع 12 ديسمبر كان انقلابا بصندوق اقتراع لفظه الشعب، وفرضته السلطة باعلام الهشتاغ « الجزائر تنخب »، والذي يسيره الكثير من الصحفيين الذين مارسوا التضليل وبرروا القتل والعنف ضد المدنيين في تسعينيات القرن الماضي، وبرروا كل خيارات السلطة، لذلك فإن كل من يعتقد بأن النقاش أيديولوجي اليوم، إما أن الأدلجة أعمت بصيرته أو أنه مكلف بمهمة، أو أنه لا يمتلك أدوات التحليل التي تجعله يفهم أن المشكل سياسي يرتبط بالشرعية والمشروعية، والشرعية لا تبنيها لا دعاية البلاطوهات التلفزيونية، ولا بيانات الدبلوماسيات الغربية، ولا نفاق المتاجرين بالدين، ولا دموع المتشدقين بالوطنية، ولا تموقع حملة الشهادات، ولا أعداد مشيعي الجنائز، لأن الشرعية والمشروعية هي مسألة سياسية تبنيها الإرادة الشعبية، والإرادة الشعبية هي مصدر السيادة والحماية من كل مخططات الخارج وفساد واستبداد شبكات الداخل، وهو ما تريده الأمة في مسار بناء الجزائر الجديدة الوفية لدماء الشهداء ورسالة الحرائر والأحرار.

الجزائر في 26 ديسمبر 2019
تحرير وتصوير رضوان بوجمعة

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici