Redouane Boudjema
200 الجزائر الجديدة
ال حادثة الاعتداء على الصحفيين في مسيرات العاصمة، أمس، حادثة يجب شجبها مهما كان من يقف وراءها ومهما كانت هوية الصحفيين الذين ذهبوا ضحيتها، ومن الضروري في الوقت نفسه استنكار كل من يريد استخدامها لأغراض سياسوية، خاصة وأن الأطراف التي تصدرت المشهد غارقة في الصمت وهم يرون الصحفيين والصحفيات يعتقلون ويضيق على عملهم في قاعات التحرير..هذا الاستغلال السياسوي برز في اليومين الماضيين بشكل مقزز، ومفضوح تنعدم فيه كل أبجديات الأخلاقيات السياسية، والهدف إلصاق العنف بحركة شعبية سلمية تدخل عامها الثالث، ولم تتسبب لا في تعطيل مصالح الناس ولا مشاغلهم، وصنعت صورة راقية لمجتمع يسير بكل تنوعاته للمطالبة بتغيير منظومة حكم كانت بكل امتداداتها تريد فرض رئيس مريض ومقعد للاستمرار إلى أن يأتيه اليقين.
هذه الحادثة تبين وجود إرادة واضحة للاستمرار في منطق العنف كمنظومة تسيير، وهي منظومة مرتبطة بنية تفكير تسعى لممارسة العنف والإقصاء باسم الوطنية أو الإسلام أو الأمازيغية أو العروبة، وهي عناصر هوياتية كثيرا ما يتم الاستعانة بها حتى في سوق شراء وبيع الأصوات الانتخابية، كما يتم استخدامها لمقاومة كل مسار سياسي يهدف إلى تغيير الوضع الراهن. التنديد بالعنف لإنتاج العنف! الكثير من منشورات التنديد التي قرأتها، أمس واليوم، لا تقل خطورة عن الحادثة في حد ذاتها، بعض هذه المنشورات راح يقول لماذا الاعتداء على الصحفيين « الأحرار »؟ وصفة الأحرار هذه توحي بأنه يمكن الاعتداء على باقي الصحفيين أو المواطنين الذين لا يحصلون على هذه الصفة، رغم أن الصحفي لا يحتاج إلى اية صفة إلا صفة المهنية، فهناك من يصفه بالحر، وهناك من يصفه بالوطني، وهناك من يصفه بالتقدمي وهناك من يصفه بالرجعي… وهي كلها صفات لا يمكن أن تلتصق بالصحفي، الصحفي مكلف بأداء مهنته وغير مكلف بأداء ادوار أخرى، ومهنته هي نقل الأحداث، كل الأحداث بكل أمانة ولا يجوز له الخلط بين الأخبار والتعاليق، وفي حالة الحراك الشعبي كحدث مهم من الواجب على الصحفيين والصحفيات نقل الأحداث كما هي، لأن الحراك لا يحتاج إلى صحفيين يمارسون الدعاية ضده ولا إلى صحفيين يمارسون الدعاية لصالحه، وهو أمر أعتقد أن الكثير من الصحفيين والصحفيات لا يريدون التطرق إليه أو حتى التفكير فيه، لأن الكثير منهم يعتقدون أنه يحق لهم ما لا يحق لغيرهم، وبأنه يمكنهم ممارسة العنف الرمزي لمعاداة الحراك أو مساندته دون أن يخضعوا لأدوات المساءلة المهنية من أقرانهم أو من المتضررين من عملهم في المجتمع، في مجال احترام قواعد المهنة وأخلاقياتها، ولذلك لا ترى في غالبية الصحفيين والصحفيات من يريد أن يفتح النقاش حول مهنة غرقت في الريع والدعاية والكراهية والعنف الرمزي.
قرأت منشورا آخر لمسؤول سياسي في حزب دعم عبد العزيز بوتفليقة وشارك في غالبية حكوماته، قال فيه إن الحراك وبالحرف الواحد « يتجه مجددا إلى العنف والتطرف.. والرجاء لا أحد يقول لي أفعال معزولة.. » ليصل في الأخير للقول إنه « بالمناسبة مراسلوا berber TV حتى واحد ما يمسهم »، وهو تصريح خطير من مسؤول سياسي، لأنه يقول ضمنيا أن العنف لا يجب أن يمارس ضد بعض الصحفيين، ولكن يمكن أن يمارس ضد صحفيين اخرين! وهو تصريح يبين درجة الممارسة السياسية، وكيف تتحول كل الأجهزة في البلد بما فيها الحزبية إلى دعائم تضليل تتبنى لغة الذباب الإلكتروني كلغة رسمية لها!كما يظهر جيدا كيف يتم استخدام العنف الرمزي لغرس العنف المادي في المجتمع، أو تبرير اللجوء إليه على الأقل.
العنف المحمود والعنف المذموم.. قبيل حادثة العاصمة بساعة أو أكثر، قُمع وعُنف العشرات من الجزائريين والجزائريات في أكثر من 15 ولاية من ولايات الجمهورية من قبل قوات مكافحة الشغب، لمنعهم من ممارسة الحق في التظاهر السلمي المكفول في الدستور وفي كل الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي صادقت عليها الجزائر، وهو أمر سكتت عنه منظومة الإعلام ومنظومة الأحزاب وكل موظفي السياسة، كما سكتوا في وقت سابق عن خروقات أخرى، كما سكتوا أو دعموا ممارسة التعذيب والاختطاف في سنوات التسعينيات.كما صمت « المنظرون » و »المحللون »، و »المغردون »… الذين يرون الشعب من فوق وهم يختصرونه في كلمتي « الغاشي » و »الغوغاء »، وهو سكوت كاف للقول بأننا أمام آلة دعاية وتضليل والهاء هدفها القبول بكل ما يمكن ان يؤدي إلى تشويه أو تفكيك أو تفتيت أو التخلص من الحركة الشعبية السلمية، أو ربما قد أكون أقل حدة فأقول أن هؤلاء ربما يسعون لتأسيس نظرية جديدة لتفسير « العنف الشرعي » لما يستخدم ضد مواطنين أبرياء فيهم المرأة والرجل، والمراهق والكبير، والشيخ الطاعن في السن والطفل الذي لا يفارق أباه حتى وهو في المسيرات…
المشكل في كل ما يحدث منذ انطلاق الثورة الشعبية في فيفري 2019، هو أن « موظفي السياسة » ومحترفي التضليل والدعاية في الإعلام، لم يتوقعوا انتفاضة سلمية من شعب عانى لقرون من العنصرية الاستعمارية المختلفة، ومن العنصرية الاجتماعية لنخب الصالونات من قالب جاهز التصق بالجزائري وهو العنف والتهور، وهو قالب يخفي كل أوصاف القبح والعنف والهمجية، ولكن هذه الثورة السلمية لم تعط أي مجال لإطلاق هذه الأوصاف، فراح بعض « الكتبة » من الخارج يصفون الحركة الشعبية بأنها حركة مدن وبأن الريف انتخب لصالح تبون في مرحلة أولى، ثم ذهب جزء من موظفي السياسة إلى ربط الحركة الشعبية بتوجه إيديولوجي معاد للدين، ثم خرج جزء آخر من المتأدلجين بخطاب آخر يريد اختصار الحراك الشعبي في الإسلاميين من بقايا جبهة الإنقاذ المحظورة، وبين كل هذه التناقضات تبرز بنية توليتارية هدفها الأساسي كسر الحراك الشعبي وكسر سلميته، لأن سلميته ستغرق كل المنتفعين والانتهازيين من مختلف المواقع من المتشدقين بالوطنية، أو المتظاهرين بالحداثة، أو المتاجرين بالدين، لأن كل هؤلاء هم مصدر لإنتاج عنف رمزي أسس ويؤسس لعنف مادي ذهب ضحيته سابقا أكثر من مائتي ألف قتيل و12 ألف مختطف والآلاف من المساجين والملايين من المهجرين.
وبالرغم من كل هذا يواصل مئات الآلاف الخروج بكل سلمية وتنوع للمطالبة بدولة الحق والقانون، دولة لا يعتقل فيها أي شخص بسبب ارائه، دولة تضمن الحريات كل الحريات، دولة تحارب الكراهية وتنبذ الإقصاء وتدفن العنصرية، وتقطع نهائيا مع العنف كمنظومة تفكير وتسيير، منظومة لا تزال عقيدتها مبنية على ثوابت وطنية هي « الاقصاء والتخويف والتخوين ».
رضوان بوجمعة الجزائر في 13 مارس 2021
ملاحظة: هذا اخر نص في هذه السلسلة، لأن كلمة « الجزائر الجديدة » تم تشويهها وإغرافها في تلويث رمزي كبير، تلويث أصبح يسوق لشخص مقيم قصر المرادية الذي يعتبر استمرارية لمنظومة التعيين القائمة على العنف والإقصاء.