في الفقر الثقافي للوطنية الجزائرية

0
1331

بشير عمري
https://www.raialyoum.com/

لا يزال السوسيولوجي الجزائري الثائر ناصر جابي يرتجع بأدوات تفكيكه لبنية السلطة في الجزائر ومصادر استمداداه لقوة الحضور الدائم والمصادم لمنطق التاريخ المتقلب والمتجدد في حقول وعقول الاجتماع والسياسة، ليعود مؤخرا في جلسة نقاش براديو “آم” إلى ارهاصات الأولى لظهور الوطنية كتعبير عن الذات المستقلة إقليميا وعن الاستعمار الذي كان أساس صدمة وعييها الأول، ليستعيب عليها القيادة غير العارفة مقارنة بمثيلتها في الجارتين الغربية التي عبر عنها أستاذ بجامع القرويين وهو علال الفاسي، والشرقية محام وخريج السوربون الحبيب بورقيبة، بينما اكتفت الجزائر بالحرفي عن المعرفي ممثلا في شخص مصالي الحاج، الأمر الذي يكون حسبما يمكن فهمه من تحليل جابي، له تأثير على تطور النسق المفهومي للوطنية لتغدو مجزأة ومغلقة ومغلفة برؤى ذاتية اقصائية غير تواصلية أعاقت عملية انبثاق عقل وطني جديد ومتجدد يفضي آليا إلى إنولاد أو إنوجاد مجتمعات، السياسة والثقافة والاقتصاد تكون لها سلطة التعبير عن الضمير الوطني عوض أن يعبر عن ضمير السلطة.

ما جعلني أدلو بدلوي وأعجلني في ذلك، ليس هو الرد المقاربة السوسيولوجية للدكتور جابي، فلا يمكنني الادعاء ذلك لعدم تخصصي وتواضع رصيدي في حقل خاض رقعته الدكتور وخبره لسنوات، إنما هو استذكار لما سبق وقرأته في ذات السياق للمفكر المغربي الكبير عبد الله العروي حول الملامح الأولى لظهور وتطور الوعي بالذات الوطنية بالمغرب، إذ أكد قائلا “عندما سقطت الجزائر سنة 1830 بعد غزوة سيدي فراج وبدأت عملية تفكيك سلطتها وإداراتها، ساعتها فقط أدركنا نحن في المغرب من نكون تحديدا”

معنى هذا أن المعرفة في المرحلة ما قبل الكولونيالية كانت خارج إطار الوعي الوطني، وحضور الاستعمار بمشروعه التفكيكي لبُنى الذات في كامل هيكلها التركيبي، استهدف أولا وأخيرا عزل العقل عن الاشتغال بالمسألة الوطنية واشكالاتها المفهومية والتاريخية، وطرح الأسئلة الكبرى المتعلقة بالكينونة والوجود الوطني، فالأمر متصل في أساسه السببي بمنطق القوة في منع عود الوعي الوطني من أن يستقيم ويستوي على معرفة تجعله سلطة في ذاتها في مواجهة المشروع الاستعماري.

ولعل ذلك ما يفسر انحصار المبادرة في التعبير عن الوطنية ومطالبها التاريخية والسياسية والسيادية في شخصيات حرفية أو شرائحية بالمنطق التصنيفي السوسيولوجي، من مثل حمدان خوجة الذي كان تاجرا في الأساس، إلى غاية مصالي الحاج الحرفي كما أشار إليه الدكتور جابي.

لكن ما يظل واجبا استحضاره في محاولة فهم واستيعاب التجربة الوطنية وعيا ومشروعا في منطقة المغرب العربي هو تلك اللحظة الفارقة التي مثلها المشروع الكولونيالي بقوة اندفاعه وانتشاره في المنطقة، فالاستيطان لا الحماية الذي ميز التواجد الاستعماري بالجزائر عنه بتونس والمغرب، كان هدفه هو هذا تحديدا، أي تفقير الوجود الوطني من أدوات تعقله واستيعابه وفق المعطى الحضاري الجديد الذي مثلته حركة الاستعمار الكبرى، والمثقفون الذين ولدوا وعاشوا فترة الاستعمار الطويلة، فكروا وتدبروا في أسباب القهر الإنساني الذي يطحن واقعهم الاجتماعي، كل داخل النسق الفكري والايديولوجي الذي تبناه مذ تفتح على القراءة والتفكير، ففرحات عباس نفى في الأول الوجود الذاتي المستقل للأمة بتأثير من الفكر التاريخي للمدرسة الكولونيالية التي نال فرصة الالتحاق بها لمنزلة والده (القايد) الاجتماعية وقتها، ومالك بن نبي تدبر ونظر للمأساة الوطنية من زاوية حضارية واشكالاتها الكبرى، بينما اكتفى العارف اليساري ونقيضه الإسلامي بالتفسير الأيديولوجي المتصل بنسق الانتماء الخاص آلية قراءة للتاريخ وبالتالي كانت المشكلة الوطنية الجزائرية جزء بسيط من مأساة الكونية المضطربة وقتها.

هذا التجلي المتلازم والمتلاحم للوطنية والكونية في النشاط المعرفي للثائر الجزائري، كان تعبيرا معزولا عن تطور المشكلة الوطنية في سياق واقع الصراع على الأرض، حيث السجال والاقتتال بين السياسي والعسكري على اقتياد الوطنية وعيا ووجودا، وهو ما سيفرغها (الوطنية) من كل عمق فكري وثقافي فيما بعد.

وآية هذا الفراغ المعرفي الذي تكبدته الوطنية الجزائرية، أنه عُقبى ثورة التحرير لم تجد ما تعبر به عن ذاتها انطلاقا من الخصوصية التاريخية لـ”ثورة المجتمع” (القُطري) فراحت تعبر عن “مجتمع الثورة” (الكوني) في أبعادها الإنسانية الكبرى، وهنا تلاشت ملامح الوطنية بوصفها التعبير الخاص عن المأساة الكونية من زاويتي النظر والتدبر والتجربة الخاصة، فثورة الصين الماوية الشيوعية اتصلت بالعام (الكوني اليساري) عبر الخاص (الرؤية الصينية) نفس الأمر مع الفيتنامية لهو شي مين، اليوغسلافية مع تيتو، وغيرها من التجارب بينما في الجزائر غابت الذات المفكرة والمفسرة للتجربة الخاصة والتراكم الحضاري وحضرت ذاكرة التحرر الإنساني في عموم معناها، من هنا سميت الجزائر بمكة الثوار لكونها كانت تشهد توافد وتدافع أصحاب القضايا التحررية في العالم، من دون أن يتحرر الانسان الجزائري كما تحرر الوطن، في الوقت الذي كانت تونس والمغرب تعرف توافد السياح وحركة رجال المال، بلا حرية للإنسان المواطن بهاذين البلدين، فظل المشروع الوطني لديهما حبيس ديكتاتورية العارف (الطبقة) والعارف الديكتاتور (بورقيبة والحسن الثاني).

كاتب جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici