النواقض الموضوعية والتاريخية للكاريزما السياسية بالجزائر

0
1574

بشير عمري

https://www.raialyoum.com/

يجب أن تفق في الأول على أن الكاريزما، أو الأثر الشخصي للقائد السياسي أو الوطني على الجماهير ليس عيبا في حد اته، بل العيب يبدر عندما يتحول ذلك التأثير والتأثر إلى عبادة لتلك الشخصية وحسبانها مبدأ ومنهى الخلاص وبدونها تنتفي الأغراض وينمحي العقل ثم ينتهي التاريخ، فعديد الشعوب بما في ذلك الموسومة جزافا بالحرة أو الليبرالية انجذبت بقوة لسحر بعض قادتها، لكن مفعول الديمقراطية بآلياته وأبرزها الانتخابية وقاها شر الوقوع في التقديس والعبادة الكاريزماتيين.

في الجزائر البلد الذي اكتشف نفسه من خلال تضحيات جسام ومعركة مستثناة المثل في منطقتها وفي ربوع العالم من أجل الانعتاق والتحرر من كل أشكال الاستعمار، الاستحمار والاستعباد، كان الحس السياسي ما إن ينشأ لدى الفرد حتى ينتهي إلى الجماعة فيأبى أن تتماهى الجماعة في الفرد، ولعل أبرز من حقت عليه هاته “السُنة” السياسية كان الزعيم الوطني مصالي لحاج، الذي تجاوز الوعي الثوري والسياسي سقف خطاب حزبه التاريخي “حزب الشعب” ليحدث الانقلاب الداخلي الذي أطاح برمزيته وقيادته التاريخية الكاريزمية التي كان يجسدها ويحتفظ بها مصالي من خلال شخصه بلباسه التقليدي وخطابه التجييشي لقواعده النضالية ولكل القوى الوطنية، يوم أن داس المركزيون صنم الكاريزما متطلعين لعقل سياسي وطني موضوعي ثوري تاريخي يضع الوطن فوق الزعيم.

هذه المحطة المشرقة في تاريخ الجزائر الجهادي والسياسي، والتي لم يُختلف حول صوابها أحد من مكونات العمل النضالي الوطني قبلا، ومن الباحثين والدارسين لتاريخ الحركة الوطنية وثورة التحرير (1954-1962) بعدا، كانت بمثابة التجلي الحقيقي للشخصية الوطنية الجزائرية وشاكلة تفاعلها السياسي مع الأحداث والأشخاص على مدار التاريخ.

فحتى مصطلح البوليتيك Boulitique الذي أبدعه المفكر الكبير مالك بن نبي في نقد المظهر الشعبوي للسياسة بالجزائر الذي كان يعكسه “الزعيم” مصالي لحاج بما أسلفنا وصفه، والذي امتد من تلك اللحظة إلى راهن الجزائريين كعلامة فاصلة بين ما هو سياسي فعلا وما هو سياسوي أي مجرد سياسي قولا – هذا المصطلح – لم يكن عبثيا في الانبلاج والانبثاق بل هو مؤسس على واقع جزائري خاص سيغدو مرجعا خطابيا وسلوكيا في تحديد طبيعة العمل السياسي وطبيعة الساسة الجزائريين!

لكن ثمة من اعتقد بأن حداثة الدولة مقارنة بعراقة المجتمع في الجزائر، ستمكنه من استباحة الضمير الوطني والرسوخ في وعي الناس كزعيم خالد آبد في تاريخ البلد، معتقدا أن حداثة الدولة تلك هي فراغ في الوعي يمكن ملؤه بكل الحيل والتحايلات على التاريخ والسياسة.

فلم يخطر ببال هؤلاء أن عراقة المجتمع الجزائري ومساراتها في التضحية من أجل الحرية والسيادة التي تمتد إلى سحيق الآماد لم تكن فراغا بالمرة حتى وإن غابت الدولة بل كانت سلطة في التاريخ صاغت الشخصية الثائرة الرافضة للانقياد الفردي أو العصاباتي أو الشللي لفرد أو جماعة بحد ذاتها.

وكلما ظهر شخص متلبس بالتاريخ وبالوطنية الأولى محاولا السطو على الضمير الوطني واستباحته لا يلبث أن ينمحي مع الوقت من وعي الناس، وقبلها يعجز هو في بذاته عن أن يأتي بما يملأ الماضي والحاضر والمستقبل في هذا الوعي الوطني والسياسي الجزائري الفريد من نوعه في المنطقة.

فابن بلة الذي حاول من حيث لا يمكنه ذلك أن يتمركز في التاريخ الوطني الجزائري، ويغدو جمال عبد الناصر آخرا بالغرب العربي، سرعان ما أطاح به من دفعوا به إلى هرم دولة الاستقلال، وبومدين الذي ملأ في الظرف الأحادي السياسي، الأيديولوجي والاعلامي، الدنيا بخطاب وطني رنان لم يستطع أن يمحو الأثر المجتمعي المكون للشخصية الوطنية النابذة للزعامة الفردية والتمركز الشخصي في تاريخ الأمة، وحال موته بدأت عملية مسح صورته كما مسح هو صورة بن بلة من المشاهد والمسارح السوح السياسية والوطنية فانتهى إلى أثر بعد عين.

حتى إذ جاء بوتفليقة كوريث أخير للاتجاه الكاريزمي الخاطئ في تاريخ الوطنية الجزائرية، وجد الأرض الخصبة لبسط سلطانه الكاريزماتي على البلد، من وضع كارثي سببته الحرب الأهلية التي امتدت لعقد كامل من الزمن، وانهيار كلي للبنى التحتية، فاعتقد الجزائريون بإمكانية معاودة “مرحلة” السبعينيات التي شهدت رخاء في المعيشة دون تأسيس لاقتصاد حقيقي غير ريعي يضمن سيرورة الدولة من الجانب الاقتصادي الحساس في واقع وتاريخ الناس أجمعين، حتى في ظل التعطيل الكلي للسياسة من خلال تعليق العمل بالدستور وإلغاء المؤسسات السيادية كالبرلمان وقتها، فالجزائريون اعتقدوا بإمكانية رؤية “عهد” وليس “زعيم”.

لكن بوتفليقة استمرأ تعلق الناس به لأنه يمثل “عهد” وتوهم أنهم قد تعلقوا بشخصه، فراح يدوس كل القوانين ويقلب عاليها سافلها ويدوس مؤسسات الدولة، مستفيدا في ذلك من اقتصاد الريع الذي أعاده إلى الواجهة الصعود الصاروخي لأثمان النفط في السوق العالمية، وما إن هوت تلك الأثمان حتى هوى معها إلى أرذل قيعان الموت السياسي التي يمكن أن يقع فيها أصحاب الطغيان.

هكذا تتجلى طبيعة المجتمع السياسي بالجزائر وعناصر الموضوعية فيه، التي تأبى أن يتجلى فيها الزعيم الواعد الواحد الأحد مهما اختطف سلطان الوعي لفترة ما وسحر أعين الناس واسترهب خيارهم، وخير دليل على ذلك على الصعيد الرمزي هو أنه لا أحد من هؤلاء استطاع أن يكسر في نفسه حاجز الخوف من التعدي على طبيعة العقل السياسي والوطني بالجزائر من خلال إقامة التماثيل الصنمية له في الساحات العمومية ولا بطوابع البريد أو على أوراق النقود للعملة الوطنية.

هذا هو إرث العمق الاجتماعي والشعبي للسياسة والوعي الوطني والذي لا يزال مستمر في المجتمع مدسوسا في جيناته السياسية يروم الانتقال إلى مستوى آخر من الفاعلية تتجاوز حد الوعي المجرد إلى العمل المؤكد عبر بناء دولة قوية تتصل في مسلكها بمنشئها الأول أي بالعمق الشعبي وليس النخبي ولا الشعبوي لمجتمع السياسة بالجزائر.

كاتب  جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici