الوطنية العربية من ملحمة التحرير إلى معضلة التغيير

0
1746


Jul 29, 2022

بشير عمري
https://www.raialyoum.com/

كثيرا ما يتساءل البعض عن أسباب معضلة تعطل التغيير السياسي في العالم العربي، وعدم قدرة العقل العربي على الفكاك منها، على الرغم ما راكمه من تجربة وطنية نافت القرن في بعض القطريات، وهنا يستريح بعض المتصدين للإجابة، إلى العالم والعامل الخارجيين، وفق نظرية المؤامرة التي هي أسهل وأسذج اجابة ممكنة لإشكال مركب وبسيط في الوقت ذاته.

في الحقيقة، يحتاج التغيير، بوصفه مطلبا وحتمية تاريخ إلى مجتمعه، إذ مثلما احتاج التحرير لمجتمعه “مجتمع الثورة” في عهد الاحتلال، تبرز الحاجة وفق طبيعة المرحلة إلى شاكلة أخرى من الوعي والآلية، وهنا يقع اللبس التاريخي الذي يبقي البلد والوطن ككل مرتكسا في حمأة الأزمة الناجمة عن تغير الظرف وما يقتضيه من تغير الدور والوعي والالية.

هنا تحديدا لعبت النظم العربية على كبح الإرادة وتعطيل أداة الوعي التغييري، وذلك بالعمل على عدم بروز مجتمعات مدنية طبيعية غير مصنَّعة ولا مصطنعة، تفضي بالضرورة إلى ميلاد مجتمعات سياسية قوية بعصريتها وعصارة فكر نخبها المتنوعة والمختلفة، وهذا كله من خلال تكريس سلطة المجتمع القديم، وتعزيز آلياته وتوظيفها في سياق سعيها الدؤوب للاحتفاظ بالهيمنة التامة على الضمير الجمعي.

المشكل أن البعض لا يزال يعتقد أن التخلف التقني والتكنولوجي والحضاري الذي تعانيه مجتمعاتنا لا يتصل ولا بأي شكل بسبب بمشكل التخلف السياسي، وأن الزعامة المجتمعية التي حققتها شعوب الدول المتطورة على حساب الزعامة الفردية لا علاقة له بالتخلف العام والشامل الذي كانت تحياه في السابق ولا تكاد تموت أو تحيا فيه اليوم دول ومجتمعات هذا العالم المسمى عربيا!

فالكل يجيد اليوم الحسرة والتحسر على هجرة ما يسمى بالأدمغة التكنولوجية والعلمية للأمة باعتبارها طاقة ضرورية للنهوض، والقليل من يتحسر على التهميش والتنكيل الذي تلاقيه الادمغة الاجتماعية والسياسة والاقتصادية التي تحمل بإخلاص مشاريع الخلاص الحقيقي للمجتمع والدولة خارج الطروحات البالية للنظم القديمة وأجهزتها، ذلك لأن التهميش الذي طال الأدمغة العلمية والتكنولوجية إنما هو عرض لمرض “فقر العقل” الذي تسببت فيه سلطة المجتمع الكلاسيكي (المتخلف) الذي تفرضه النظم السياسية للتحكم في العامة وتعميتها.

فالطائفية الدينية القائمة على الحقيقة الخاصة والمطلقة في الدنيا والآخرة، تظلها أنجع وسيلة لقطع كل حوار فكري وسياسي بين النخب المشتغلة داخل دائرة الفكر السياسي الديني، بالصرف النظر عن الموقف من هاته الدائرة، وعليه تظل “حروب الحقيقة” المشتعلة بينها (الطوائف والحركات) أريح وسيلة لتصويرها غير مستقيمة مع العصر وغير موضوعية للتاريخ وللوطنية بالمرة.

وهنا سهُلت على النظم الحاكمة عملية الضبط السياسي والديني للمجتمع من خلال التمكين للعقيدة الدينية التقليدية كالطرقية التي ستتولى مهمة تكريس الولاء والطاعة التامة والعامة للحكم عبر خطاب خال من روح المعارضة العصرية لمشاريع السلطة ليس السياسية فحسب بل الاجتماعية والاقتصادية وكل ما شمله الفكر السياسي الإسلامي المعارض باعتباره مشروع مجتمع شامل لكل القضايا.

الأمر ذاته يتم مع المعارضة الوطنية، بحيث تجرد من كل أدوات المراجعة الموضوعية لتراثها السياسي، من خلال تقديس وضعي خاطئ لتاريخها النضالي الوطني وعصم فكر ورجالات التأسيس، واعتبار أي نقد أو إعادة التفكير في تلك اللحظة خيانة للأمة يواجه صاحبها بالتخوين كما يواجه منتقد ومُراجع العهد السياسي الإسلامي الأول بالتكفير.

في الجزائر مثلا فكرة لعروش كآلية لتحقيق المطلب الثقافي والسياسي للتيار البربري، نالت كثيرا مما سمي بالقضية الثقافية الامازيغية وعمل على تعزيز حضورها في سياق المطلبي الجهوي وأسهم بالتالي في فشل مسعى اندراجها في البعد الوطني مثلما ظلت تهفو إليه عقول هذا النيار.

ما فاقم من أزمة تحرر المبادرة السياسية من قبضة النظم تنظيما وتوجيها، هو عزوف المثقف الأكاديمي والنقدي عن العمل السياسي الحزبي والمؤسساتي باعتباره الوسيلة الشرعية والأداة المثلى في نشاط المجتمع والدولة، بحجة أن الانخراط فيه يفقده حيدته وحياده المعرفي والأكاديمي، ويمس من مصداقيته في الوسط العام حيث سمعة وصورة السياسي ملطخة بسبب انتهازيته وخيانته لتراث تياره مجتمعه.

هكذا غياب للمثقف والأكاديمي عن الفضاء السياسي الرسمي والحزبي المعارض، وعدم الانخراط فيه من خلال منابره الخطابية والخططية الإعلامية والسياسية والمجتمعية، سواء اعترفت به واعترضت عليه السلطة، خدم النظم الحاكمة كثير في عملية استيعاب الحياة الحزبية بالاصطناع، ما أفضى بالتالي إلى تكريس ديمقراطية الواجهة التي صارت ظاهرة عربية بامتياز.

إذن فمسار التغيير هو شبيه في سياق فعله وتفاعله بمسار التحرير، يحتاج إلى روح ووعي وطنيين بديلين، يقلع فيهما المجتمع عن صور أحواله وأوضاعه الأولى في النضال ضد الآخر إلى النضال ضد قيود الذات، ويتخلص من التكلس والتكلف التأويلي للثوابت التي يعصم نظرة أولين إليها أكثر من عصمتها (الثوابت) هي في حد ذاتها، فلن يتحقق التغيير إلا بانفلاق النواة الوطنية الأولى الصلبة وكشفت عن مخزونها ومكنوزها المجتمعي، والا فسيظل المجتمع يرى العصمة والسلامة في مشاريع تلكم النظم المتوقفة في لحظة انبلاج الوطنية الاستقلالية الأولى بكل أزماتها وأدواتها وأدوائها.

كاتب  جزائري

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici